حذر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته؛ من أن حربا عالمية مع روسيا قد تضرب كل بيت في أوروبا وتحدث دمارا هائلا، داعيا إلى الاستعداد لها “على غرار ما لاقاه آباؤنا وأجدادنا”.
وقال في كلمة أدلى بها في العاصمة الألمانية برلين، الخميس 11 ديسمبر/كانون الأول، إن على الناتو أن يدرك أن “روسيا تعتبرنا الهدف التالي”، مشيرا إلى أن الحرب المحتملة قد تطال “كل منزل ومكان عمل، وتحدث دمارا هائلا وتتسبب في نزوح ملايين الناس ومعاناة واسعة وخسائر فادحة”.
بعد أسبوع من هذا الموقف الذي جاء على لسان أرفع مسؤول في “الناتو”؛ قال الرئيس فلاديمير بوتين؛ إن بلاده ستضطر إلى تحرير “أراضيها التاريخية” بالطرق العسكرية إذا فشلت الدبلوماسية، مشيرا إلى أن بلاده حققت تقدما بكل جبهات القتال في أوكرانيا، في وقت تتواصل فيه دعوات هستيرية في الغرب للاستعداد لحرب كبرى مع روسيا.
هتلر حاضر في الذاكرة
تأتي هذه المواقف النارية من كلا الطرفين، في ظل تعثر مسار المفاوضات السياسية برعاية أميركية لإنهاء الحرب في أوكرانيا؛ فموسكو ترفض وقف الحرب أو توقف القتال مؤقتا بدون تحقيق شروطها بضم المناطق الشرقية من أوكرانيا إليها، مع رفضها وجود أي قوات للناتو في أوكرانيا، لتحقيق “السلام”.
على المقلب الآخر يرفض الأوروبيون مقاربة الرئيس الأميركي بتخلي أوكرانيا عن جزء من أراضيها لإنهاء الحرب، لأنهم يرون في ذلك هزيمة للناتو، وتهديدا مباشرا لأوروبا، مستذكرين الحرب العالمية الثانية التي اندلعت بسبب سياسة الاسترضاء مع ألمانيا النازية.
أوروبا في مسعاها لمنع الحرب مع ألمانيا، حاولت استرضاء أدولف هتلر بموافقة فرنسا وبريطانيا على ضم إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي إلى ألمانيا النازية في سبتمبر/أيلول 1938، بذريعة أن الإقليم يضم سكانا من جذور ألمانية، وكانتا (بريطانيا وفرنسا) قد تغاضتا سابقا عن احتلال هتلر منطقة الراين عام 1936، وضمه النمسا في مارس/آذار 1938، دون اتخاذ أي إجراءات ضد ألمانيا، ما اعتبره هتلر ضعفا وعدم رغبة في القتال، فاندفع لاحتلال باقي تشيكوسلوفاكيا عام 1939، ثم غزو بولندا، ما فجر الحرب العالمية الثانية.
هذه الخشية من تكرار التاريخ نفسَه لا تنفك عن العقل الأوروبي، فالقادة الأوروبيون يرون في نهج الرئيس بوتين، سياسة توسعية لاستعادة أمجاد روسيا القيصرية الإمبراطورية، المبنية على أبعاد قومية تاريخية، ولتأمين مجال روسيا الحيوي في اختراقها شرق وشمال أوروبا عبر أوكرانيا، ودول البلطيق، وفنلندا، وبولندا، بالإضافة إلى القوقاز، وآسيا الوسطى جنوبا.
ويزداد قلق الأوروبيين من عدم اكتفاء موسكو بضم الأقاليم الشرقية لأوكرانيا إذا تنازلوا عنها، وربما يؤدي ذلك إلى فتح شهية روسيا لضم مناطق أو دول أخرى إلى أراضيها، بعد هضمها شبه جزيرة القرم والأقاليم الشرقية لأوكرانيا، وبعد ترميم صفوفها وتقوية ترسانتها العسكرية الهجومية.
أميركا تكشف الغطاء عن أوروبا
يتسارع تراجع الولايات المتحدة الأميركية في حماية القارة الأوروبية، عبر سياسة الرئيس ترامب الجديدة التي تتمحور حول أميركا أولا، وبعد مطالبته دول حلف الأطلسي (الناتو) برفع مساهماتها في الإنفاق الدفاعي من 2% إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، حيث كانت واشنطن حتى عام 2016 تساهم بنسبة 71% من نفقات الناتو الدفاعية.
في ذات السياق، سحبت واشنطن نحو 3 آلاف من قواتها المتمركزة في رومانيا، الجناح الشرقي لحلف الناتو في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2025، وأعلنت في نهاية يوليو/تموز 2025 عن خطط لسحب نحو 6400 جندي من ألمانيا، وإعادة تموضع 5600 آخرين داخل أوروبا عوضا عن بقائهم في ألمانيا بشكل دائم.
يتقاطع هذا السلوك مع ميل أميركي لشروط موسكو بشأن وقف الحرب في أوكرانيا، وتعرض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لضغوط سياسية هائلة من قبل الرئيس ترامب الذي حد نسبيا من توريد الأسلحة الأميركية إلى الجيش الأوكراني، ما دفع الأوروبيين لاحتضان الرئيس زيلينسكي ودعمه ماليا وعسكريا، عوضا عن تراجع الدعم الأميركي.
القادة الأوروبيون يرون في نهج بوتين، سياسة توسعية لاستعادة أمجاد روسيا القيصرية، المبنية على أبعاد قومية تاريخية، ولتأمين مجال روسيا الحيوي في اختراقها شرق وشمال أوروبا عبر أوكرانيا، ودول البلطيق، وفنلندا، وبولندا، بالإضافة إلى القوقاز، وآسيا الوسطى جنوبا
إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة والتي أعلن عنها البيت الأبيض في ديسمبر/كانون الأول 2025، اعتمدت لغة هجومية على أوروبا في سابقة ملفتة؛ حيث طالبت الوثيقة الأوروبيين بالدفاع عن أنفسهم وشككت في جدوى توسع حلف الناتو، وأن أميركا لن تبقى “مظلة مفتوحة” بلا شروط على قاعدة أن “من يدفع أكثر يحظى بالتزام أقوى”.
وما أساء للأوروبيين أن إستراتيجية الأمن القومي الأميركية وصفت قارتهم بأنها تعاني من “شيخوخة ديمغرافية.. وأزمة هوية”؛ بسبب سياسة الهجرة، وأن أوروبا ربما تتعرض لـ “محو حضاري” إذا استمرت في استقبال المهاجرين.
وقد وصل الأمر بأن تلمح واشنطن في وثيقتها الإستراتيجية إلى التدخل في الشؤون الداخلية لدول القارة الأوروبية عندما أشارت إلى أن “تنامي نفوذ الأحزاب الأوروبية الوطنية” مدعاة للتفاؤل، وأن الولايات المتحدة ستساعد أوروبا على “تصحيح مسارها الحالي”، ما اعتبر إعلان نية عن تغيير الأنظمة داخل القارة، الأمر الذي يفرح موسكو؛ باعتبار الموقف الأميركي أقرب لها ورافعة لسياساتها الخارجية.
السلوك الأميركي بقيادة الرئيس ترامب شكل صدمة للقارة الأوروبية، التي بدأت عمليا النظر في تغيير سياساتها الدفاعية والاقتصادية، حيث بدأت ترفع من موازنات الدفاع والتصنيع العسكري، وتغير قوانينها بشأن التجنيد الإلزامي، وتحفيز الشباب على الالتحاق بالجيش، كما في ألمانيا وفرنسا.
ذلك انعكاس للشعور بالخطر المحدق بأوروبا وتداعيات الحرب المستمرة بين روسيا وأكرانيا، وأن أوروبا قد تواجه مصيرها وحدها في ظل التقارب بين واشنطن وموسكو على حساب الإرث التاريخي بين الولايات المتحدة والقارة العجوز.
وهذا ما حدا بالمستشار الألماني فريدريش ميرتس للقول أمام مؤتمر السفراء، سبتمبر/أيلول 2025، في وزارة الخارجية الألمانية: “يجب أن نعترف بحقيقة واحدة: علاقتنا مع الولايات المتحدة تتغير. الولايات المتحدة تعيد أيضا تقييم مصالحها”.
أوروبا تعاني الضعف والشيخوخة
لا تقتصر مشاكل القارة الأوروبية على أزمتها الدفاعية وحاجتها لاستعادة قوتها العسكرية الرادعة في مواجهة خطر تمدد الحرب في أوكرانيا إلى أوروبا الشرقية، فهي تعاني من أزمات اقتصادية؛ بسبب تباطؤ معدلات النمو في الإنتاج، وتداعيات حرب الجمارك مع الولايات المتحدة، وصعود الصادرات الصينية المنافسة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا والسيارات الكهربائية.
كما تعاني أوروبا إستراتيجيا من تراجع معدلات النمو السكاني وارتفاع معدلات الشيخوخة؛ حيث تشير بعض التقارير إلى أن معدلات الخصوبة في الاتحاد الأوروبي انخفضت إلى مستوى متدنٍ غير مسبوق بمعدل 1.38 ولادة لكل امرأة، وأن الأمم المتحدة تتوقع أن يصل عدد سكان الاتحاد الأوروبي في العام المقبل إلى ذروته، ومن ثم يبدأ في انخفاض مستدام، ما سيؤثر على قطاع العمل والاقتصاد، وقدرة الدولة على تجنيد الشباب في مواجهة خطر الحرب التي تطرق أبواب القارة الأوروبية.
هذا الواقع سيخلق بدوره جدلا سياسيا واجتماعيا داخل دول الاتحاد الأوربي، خشية تراجع معدلات الرفاهية والخدمات العامة لصالح الإنتاج العسكري والاستعداد للحرب، وبسبب رفض شرائح واسعة من الشباب فكرة التجنيد الإلزامي، ودعوتها للاهتمام بالتعليم وتوفير فرص عمل في ظل ازدياد معدلات التضخم وأزمة السكن.
لا يُرتقب أن تتمكن أوروبا من تدارك الخلل في معدلات الخصوبة، ومواجهة الشيخوخة وتراجع عدد السكان في المدى المنظور؛ لأسباب تعود إلى: الثقافة المجتمعية وتراجع الاهتمام بالعائلة، وازدياد تكاليف الحياة الاقتصادية، رغم إقدام بعض الدول على توفير حوافز للإنجاب كما في إيطاليا، وبولندا، وهنغاريا.
الحرب وسباق الزمن
تبدو الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس ترامب، وحسب وثيقة الأمن القومي الجديدة، أقرب إلى إضعاف تجربة الاتحاد الأوروبي الذي يشكل قطبا غربيا منافسا للولايات المتحدة على الصعيد السياسي والاقتصادي، وقد تجد واشنطن في ضعفه فرصة للهيمنة على القارة العجوز والتدخل في شؤونها الداخلية لصالح الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية التي تعتمد على أميركا أولا، وما رغبة ترامب بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند التابعة للدانمارك إلا نموذج شاهد على ذلك.
هذا يشكل تحديا تاريخيا للقارة الأوروبية التي أنجزت فكرة الاتحاد الأوروبي كقطب دولي منافس، كما يشكل فرصة لروسيا التي تتطلع بقيادة بوتين لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية مترامية الأطراف في شرق أوروبا والقطب الشمالي.
سياسات ترامب تلتقي بشكل أو بآخر مع سياسات بوتين وتخدم السياسة الروسية التوسعية على حساب الاتحاد الأوروبي والقارة العجوز التي قد تتحول في لحظة ما إلى ضحية وفريسة لواشنطن غربا وموسكو شرقا.
القلق والخشية من المستقبل مبرر وهو يفرض على الاتحاد الأوروبي الاستعداد للأسوأ والحرب التي تطرق أبواب القارة من الشرق، فهل يستدرك الأوروبيون ما فاتهم ويسعفهم قِصر الزمن لامتلاك القوة والردع أم إن السيف سبق العذل؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
