رفعت إسرائيل الضغط على لبنان إلى أقصاه ضمن القواعد التي ثبتتها تدريجيا بعد اتفاق وقف إطلاق النار الموقع قبل عام. فمنذ هذه اللحظة التي كان من المتوقع أن تنهي الحرب، سارت إسرائيل في مسارات متعددة: أولها المسار العسكري عبر نسف شريط القرى الحدودي، ومنع إعادة الإعمار، والتمركز في نقاط حاكمة جنوب لبنان، إضافة إلى الاستهداف اليومي حزب الله، وصولا إلى اغتيال رئيس أركانه، بعد اغتيال من سبقه في هذا المنصب، أبو علي الطبطبائي في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ترافق المسار العسكري مع مسار اقتصادي دولي يهدف إلى “خنق” حزب الله وتقليب بيئته الحاضنة عليه، ناهيك عن المسار السياسي الذي تكثف بإرسال رسائل عالية المطالب، بل مستحيلة، تعنون باستسلام حزب الله التام قبل رأس السنة، وبفرض الدولة سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية -باستثناء تلك الممسوكة إسرائيليا- من دون أن تقدم الولايات المتحدة أي ضمانة لإعادة الإعمار، أو لانسحاب إسرائيل في المقابل.
كانت الرسالة التي حملها المفاوض المصري مؤخرا، العليا والأقسى لهجة، مع تحديد إطار زمني آخره رأس السنة لتنفيذ ما ذكر من مطالب إسرائيلية، وإلا فإن الحرب ستفتح على مصراعيها.
وقد تعمد المفاوض المصري إيصال الرسالة إلى كامل لبنان عبر اجتماع وزير الخارجية المصري بدر أحمد عبدالعاطي مع مجموعة من النواب اللبنانيين، ناقلا إليهم مضمون الرسالة، وحرصه على توسيع دائرة الحضور للتأكد من وصولها إلى من يعنيهم ومن لا يعنيهم الأمر، فانتشرت الرسالة في البلاد كالنار في الهشيم.
في المقابل، أبدى لبنان استياءه من كون المطلوب يأتي من طرف واحد، متمسكا بما عرف بإستراتيجية “الخطوة خطوة”، مع الإبقاء على مطالبات ضمنية بخطوات عملية تشمل وقف الضربات الإسرائيلية، ووضع رزنامة واضحة للانسحاب الإسرائيلي من لبنان، كشرطين رئيسيين؛ ليتمكن من الاستدارة إلى الداخل اللبناني، والقول إن الدبلوماسية والجيش قادران على حماية لبنان وحده.
لكن إسرائيل والولايات المتحدة رفضتا تقديم أي جزرة للبنان، واستمرتا في سياسة “العصا والعصا”.
ساعات الخوف
تدرك إسرائيل أن نافذة الوقت الأميركية تضيق تدريجيا، لذا تسعى إلى حصد أعلى قدر ممكن من المكاسب. وفي لبنان، تتمثل هذه المكاسب بثلاثة أهداف: منطقة عازلة، تطبيع سياسي، وإنهاء الأجنحة العسكرية بما يشمل قطع النفوذ الإيراني في لبنان.
أما الولايات المتحدة، فهي لا تختلف كثيرا عن هذه الرؤية، ولكن التفاصيل والمستوى وطريقة التنفيذ هي محل النقاش. فعلى سبيل المثال، هل المنطقة العازلة هي الشريط الحدودي أم جنوب الليطاني؟ وهل هي منزوعة السلاح الثقيل أو السلاح عموما ومن سيتواجد فيها؟
وحتى لو أراد الإسرائيلي التمركز في مساحات واسعة فإن ذلك سيعرضه لخطر مشابه لخطر الثمانينيات، وربما يكون هدية للمقاومة وحزب الله.
مثل هذه النقاشات هي التي نتحدث عنها عندما نتكلم عن التباين الإسرائيلي الداخلي أو الإسرائيلي-الأميركي، وليست من حيث الأهداف والرؤى أو الانحيازات الابتدائية.
ولهذا جاءت الرسائل الشديدة في الشهر المنصرم بأن الجحيم سيفتح على لبنان بعد انتهاء زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا لاون الرابع عشر مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول وقبل رأس السنة إذا لم تلمس إسرائيل خطوات واضحة في الاتجاه الذي تريده.
انتهت زيارة البابا لاون الرابع عشر فدخل لبنان في مرحلة من الخوف وعد الساعات. أيام طغى عليها الارتباك نتيجة لندرة أوراق القوة ليسارع لبنان الرسمي بعيد مغادرة البابا ليقدم ورقة جديدة في مسار المفاوضات، وهي تعيين شخصية مدنية رئيسا للوفد التفاوضي، كتنازل عن فكرة حصر المفاوضات بالجانب التقني التي كان متمسكا بها.
خطوة يأمل لبنان أن تمنحه وقتا إضافيا، مع الاحتفاظ بورقة أخرى للأيام المقبلة، وهي استعداده الضمني لإضافة شخصيتين مدنيتين إلى ملف الترسيم البري، وملف النفط والغاز البحري.
تكرر إسرائيل إستراتيجيتها نفسها، أي رفع السقف حتى الحافة، من دون إدراك حقيقي لما إذا كانت تريد فعلا توسيع عملياتها العسكرية إلى حرب مفتوحة أم لا. فالمعلومات المتناقلة وانسداد الأفق يدعمان فكرة إمكانية التوسع القاسي للحرب، في مقابل تحليلات تقلل احتمال الحرب المفتوحة لكونها، في الواقع، بلا هدف سياسي واضح لإسرائيل، وقد ترتد عليها سلبا إذا ثبت حزب الله ولم يتغير الواقع الميداني.
في كل الأحوال، فإن رفع السقف الحالي يستنزف لبنان وحزب الله معا: تَنتزع من لبنان أوراقا سياسية بلا مقابل، وتستنزف حزب الله عبر الاستهدافات اليومية والضغط الإضافي على الجيش لسحب سلاح الحزب، من دون أن تدفع إسرائيل ثمنا حقيقيا.
منذ اللحظة الأولى، كان موقف الدولة اللبنانية واضحا: السير في المسار المفروض عليها، ولكن بخطوات متدرجة تجنب الداخل صدمات كبيرة، مقابل مطالبة بانسحاب إسرائيلي فعلي، واستعادة الأسرى وبدء الإعمار، من دون أن تمتلك الدولة أوراق قوة حقيقية تسمح لها بتثبيت هذا المسار.
يعيد حزب الله تعريف سلاحه؛ من مجرد أداة إلى هوية جامعة للقاعدة ولو لم يتم استخدامه في أصعب الظروف.. فالحفاظ على فكرة امتلاك السلاح هو ركن وجود الحزب نفسه
خيارات الحزب
لكن السؤال هو أين حزب الله وبماذا يفكر؟
في هذا الغبار الكثيف تتجه الأنظار إلى حزب الله. لكن لا يمكن فهم تفكير الحزب اليوم من دون فهم طبيعته وواقعه، وما أحدثته الحرب داخله لمعرفة كيف يفكر أو توقع كيف سيفكر. فالضربات التي تعرض لها كبيرة، خاصة على مستويين أساسيين:
الأول؛ وهو الاختراق الأمني والاتصالات الذي لم يعالج بالكامل، كما ظهر بوضوح في استهداف الطبطبائي، ما جعل الحزب أقل ثقة بأي خطوة قد يقدم عليها؛ خوفا من حجم الانكشاف، وبالتالي تراجع الثقة بأهمية القدرات العسكرية مهما بلغت.
أما المستوى الثاني المحوري لفهم واقع الحزب؛ فهو قطع خط الإمداد مع إيران والذي جعل الحزب غير قادر على إعادة بناء القوة التي كانت لديه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، ما يعني أن أي حرب واسعة قد تستنزف مخزونه من السلاح الثقيل المتبقي دون القدرة على إعادة التخزين، وبالتالي عدم قدرته على خوض حرب مفتوحة طويلة.
إلى جانب ذلك، يخوض الحزب صراعا اقتصاديا للحفاظ على موارده التي تترصدها الوفود الدولية وإسرائيل والداخل، وصراعا اجتماعيا للحفاظ على تماسك بيئته الحاضنة حوله، مع ضرورة عدم إغفال أنه حزب إقليمي مرتبط بالإستراتيجية الإيرانية “الصبورة” عمودها العسكر، وأنه يمثل طائفة أقلوية تحمل ما تحمله الأقليات عادة من حسابات ومخاوف وجودية وعددية.
يدرك حزب الله أن عنوان المعركة التي يخوضها “المتفوق الأميركي” في المنطقة، هو إنهاء أي شكل من أشكال المجموعات العسكرية، خاصة المعادية لإسرائيل، وخلق توازنات مريحة تسمح له بالتخفف من المنطقة.
لذلك، وأمام الظرف الراهن والواقع المستجد الذي يعيشه الحزب، يضع الأخير خطا سياسيا أحمر، ويدور ما سواه حوله: الحفاظ على فكرة امتلاك السلاح، ليس باعتباره مجرد أداة، بل لأنه جوهر الهوية السياسية والاجتماعية للحزب، وركن وجوده وتعريفه لنفسه ومجتمعه، وبالتالي الحفاظ على حزب الله نفسه- أو هكذا يفكر الحزب على الأقل.
هذا الخيار، المرفوض كليا خارجيا، يحمل في طياته الكثير من التنازلات المحتملة من جانب الحزب، وعلى رأسها استعداده لتسليم جنوب الليطاني كاملا، وترجيح خيار عدم الرد ضمن مبدأ “الصبر الإستراتيجي”، والرهان على النفس الطويل ولو صعد الإسرائيلي.
وفي المقابل، يعمل الحزب على إعادة تعريف قوته بحيث لا تتركز حصرا في السلاح، بل في البيئة الشعبية المؤمنة بفكرة المقاومة وسلاحها، والتي يعتبرها الحزب الركن الذي لا يمكن التنازل عنه، وبالتالي يعاد تعريف السلاح نفسه من أداة إلى هوية جامعة للقاعدة، ولو لم يتم استخدامه في أصعب الظروف.
ويدرك كل من يعرف الحزب أن مسألة نزع السلاح بالكامل مسألة شديدة التعقيد. فالحزب مقتنع بأن الغارات الجوية لا تستطيع تحقيق ذلك، وأن أي عملية برية- وحتى في حال انهيار الحزب التام- ستحتاج إلى وقت طويل، ما يجعل رفع شعار الاحتفاظ بالسلاح إستراتيجية مربحة له.
لكن إسرائيل بالمرصاد؛ فهي تحاول قلب سلاح الوقت عبر رفع مستوى الاستنزاف العسكري والاقتصادي والاجتماعي للحزب وبيئته إلى درجة قد تنقلب فيها بيئته عليه، أو تبلغ فيها باقي الفئات مستوى الانفجار في وجهه باتهامه بالتضحية بالجميع لأجل البقاء.
ضمن هذه المعادلات ندرك أن حزب الله ضمنا يقبل بتفاوض الدولة السياسي مع إسرائيل، ولكنه يريد أن يكسب به أكبر قدر ممكن من الوقت والمكتسبات، مع عدم وصول هذه المفاوضات لنزع السلاح دون التخلي عن رفع الصوت، ورفض ذلك في العلن، إمساكا بالقاعدة واتساقا مع الشعارات، فطيلة الفترة الماضية لم ينفعل حزب الله فعليا إلا عندما وُضع جدول زمني محدد لنزع سلاحه من قبل الحكومة -عندها وعندها فقط ثار. لذا وجب في إعادة تركيب مشهد فهم ثنائية الدولة- حزب الله، أنه ليس بتناقض تام، بل باعتبار التعقيدات والتشابكات الموجودة.
سواء توسعت الحرب الإسرائيلية على لبنان في المرحلة المقبلة أم لا، فإن ذلك المشهد لن يكون الأخير. هذه الجولة مهما جاء فيها، فمن غير المتوقع أن تكون سوى جولة في لعبة عض الأصابع التي ينتصر فيها من يمتلك القدرة على الصمود المجتمعي قبل العسكري والسياسي.
كل هذا الضغط في وقت أصبح هناك قناعة بأن حزب الله دخل في رهانات تاريخية كارثية أفقدته أي إمكانية امتداد خارج الإطار الإيراني إقليميا، أو داخليا، ما يجعل الصمود الداخلي بالنسبة إليه آخر خطوط الدفاع وربما أصعبها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
