فيلم «الست» الذى عُرض مؤخرًا، تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، لا يمكن التعامل معه بوصفه عملًا سينمائيًا تقليديًا يستعيد سيرة فنية معروفة، بقدر ما هو مشروع إبداعى واعٍ يقترب من واحدة من أكثر الشخصيات رسوخًا فى الذاكرة المصرية والعربية: أم كلثوم. منذ اللحظة الأولى، يضع الفيلم نفسه فى منطقة مختلفة، لا تبحث عن الاستعادة الحرفية، بل عن إعادة الفهم، ولا تكتفى بسرد الوقائع، بل تحاول الإمساك بروح زمن وصوت كانا جزءًا من تشكيل الوجدان الجمعى.

السيناريو الذى كتبه أحمد مراد يتسم بتماسك واضح، وبكل حسم يبتعد عن السرد التقريرى أو التتابع الزمنى المباشر الذى كثيرًا ما يُثقل أفلام السِيَر. النص – المُأنسّن- لا يتعامل مع أم كلثوم كأيقونة مكتملة لا تُمس، ولا كأسطورة معزولة عن سياقها، بل كإنسانة صنعت مجدها عبر مسار طويل من الوعى والاختيار والانضباط، وتقاطعت حياتها الحافلة مع تحولات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى. هكذا يصبح الصوت شاهدًا على مرحلة، وشريكًا فى تشكيلها، لا مجرد خلفية موسيقية كلاسيكية لزمن مضى.

ويأتى إخراج مروان حامد ليترجم هذا الوعى إلى رؤية ملحمية ذات طابع عالمى، تتعامل مع الصورة بوصفها لغة قائمة بذاتها. الكاميرا لا تنشغل بالزخرف، بل بالمعنى، وتتحرك بثقة محسوبة – لم تنتقص من عصريتها وخفتها – تعكس هيبة الشخصية وثقل اللحظة التاريخية. الفيلم يستحضر زمنًا شديد الثراء فى تاريخ مصر، ليس فقط عبر الديكورات والملابس، بل من خلال الإحساس العام بالمكان والزمان، فتبدو القاهرة مدينة نابضة بالحياة، ومسرحًا لتحولات كبرى كان الفن أحد أدواتها الأساسية.

وفى هذا السياق، وحتى مع إدراك أن منى زكى لا تقدّم تطابقًا شكليًا كاملًا مع أم كلثوم – وهو من وجهة نظرى المطلوب – فإن الفيلم لا يسعى أصلًا إلى المحاكاة الفوتوغرافية أو الاستنساخ الخارجى، بل يراهن على محاكاة سينمائية تاريخية بدرجة امتياز، تقوم على استدعاء الروح لا نسخ الملامح، وعلى بناء الإحساس بالشخصية لا مطابقة صورتها. ومن هنا يأتى الأداء التمثيلى منسجمًا مع الرؤية العامة للعمل، دون افتعال أو استعراض، بحيث يظل خادمًا لفلسفة البناء الدرامى.

وعلى المستوى الفنى، يقدّم «الست» نموذجًا لإدارة واعية للإيقاع السينمائى، إذ يراهن الفيلم على التراكم الهادئ بدل الذروة السريعة، وهو ما قد يُشعر بعض المشاهدين ببطء نسبى فى بعض المقاطع، لكنه بطء محسوب يخدم ثقل الشخصية وزمنها. كما يفضّل العمل الاقتصاد فى الحوار، والاعتماد على الصورة والصمت والموسيقى بوصفها أدوات تعبير أساسية، وهو خيار جمالى واضح يعكس ثقة فى وعى المتلقى، حتى وإن جاء أحيانًا على حساب سهولة التلقى السريع. أما على مستوى البناء الدرامى، فيجنح الفيلم إلى التأمل أكثر من الصراع المباشر، مقدّمًا تجربة مشاهدة عميقة لا تسعى للإرضاء السهل بقدر ما تراهن على أثر ممتد بعد انتهاء العرض.

وتتجلى «الشجاعة» لدى كل من شارك فى «الست» – وهى فى تقديرى القيمة الأعلى للفيلم – بوصفها جوهرًا فكريًا قبل أن تكون موقفًا فنيًا. فالتعامل مع شخصية بحجم أم كلثوم لا يحتمل أنصاف الحلول؛ إما تقديسًا جامدًا يفرغها من إنسانيتها، أو جرأة مبتورة تصطدم بالذاكرة دون فهمها. الفيلم يختار طريقًا أصعب: الاقتراب دون تفريط، وإعادة النظر دون انتقاص. هذه الشجاعة لا تقوم على كشف الأسرار أو تفكيك الرمز، بل على احترامه عبر منحه بعدًا إنسانيًا – هو الأولى بفكرة الفن الأصيلة – يجعله أكثر حضورًا.

هنا – فى المجمل – يتحول الفن إلى ذاكرة، والذاكرة إلى فعل مقاومة للنسيان، وتصبح السينما جسرًا بين ما كان وما لا يزال ممكنًا. صُـنّاع فيلم «الست» يؤكدون أن العظمة لا تُستعاد، بل تُعاد صياغتها برؤية واعية، وأن كوكب الشرق لم تكن صفحة فى تاريخ مصر، بل سطرًا مضيئًا فى روحها، كلما أظلمت الأزمنة عاد ليلمع من جديد.