بينما كنت أبحث في الفضاء الإليكتروني عن شيء آخر تمامًا، شيء عابر لا علاقة له بالتاريخ ولا بالذاكرة، ظهر أمامي هذا الفيديو بالصدفة، كأن الخوارزميات نفسها قررت أن تمنحني استراحة من الحاضر. لقطة قديمة بالأبيض والأسود، كاميرا ثابتة، موقع تصوير هادئ، يجمع بين المذيعة الرقيقة، الذكية سلوى حجازي والست الأيقونة أم كلثوم.. أم كلثوم. لم أكن أبحث عنها، ولم أكن في مزاج استعادة الماضي أو مناقشة أية تفصيلة من تفصيلاته، لكن الماضي أحيانًا لا ينتظر استعدادنا.
توقفت عن البحث، وجلست أستمع وأشاهد، لا بوصفى متفرجة، بل كمن يفتح وثيقة حية، وثيقة لا تخص الفن وحده، بل تخص معنى أن يتكلم الصوت الذي اعتدنا أن ينقذنا أو يتلقفنا بالغناء.
هذا هو أول ظهور تليفزيوني لأم كلثوم، بعد حفلها الشهير ووقوفها على مسرح الأوليمبيا في باريس لجمع تبرعات من أجل المجهود الحربي، إثر نكسة 1967، في لحظة كان فيها الكلام أصعب من الغناء، وكانت الكلمة اختبارًا للكرامة بقدر ما كانت النغمة اختبارًا للجمال.
أم كلثوم هنا في هذا الحوار تظهر في مشهد بالغ الدلالة، مطربة بحجم أمة تجلس أمام كاميرا رسمية، لا تغني، لكنها لا تفقد سلطتها؛ تتحدث بنفس الاقتصاد، بنفس التحكم، بنفس الوعي الحاد بأن كل جملة، مهما بدت بسيطة، لها وزنها وتأثيرها. تعرف وزن اللحظة وحرج التوقيت وثقل المعنى. الحوار في ظاهره عادي، أسئلة مألوفة، مذيعة عذبة ولطيفة تحاول الاقتراب من وجدان رمز لا يستهان به من رموزنا الفنية والثقافية، لكن ما بين السطور شيء آخر تمامًا.
أم كلثوم لا تقدم نفسها بوصفها “النجمة العالمية” المحققة لنجاح كبير، ولا تستعرض وقوفها على مسرح غربي عريق، بل تجلس كما كانت تجلس دائمًا: متزنة، متحفظة، تختار كلماتها كما تختار مقاماتها، بحساب شديد، دون رغبة في الإبهار. حين تتحدث عن فرنسا، تقول إن الخيال لا يشبه الواقع، ثم تضيف بهدوء أن باريس أجمل، جملة تحمل إعجابًا صادقًا دون أن تنزلق إلى افتتان يفقدها توازنها. إنها تعرف كيف تمدح دون أن تذوب، كيف تعترف بالجمال دون أن تضع نفسها أو بلدها في موقع المقارنة المهزومة.
وحين تُسأل عن النجاح، تعترف بالخوف، لا باعتباره ضعفًا، بل باعتباره أخلاقًا. “بحترم الجمهور”، تقولها ببساطة، كأنها تضع تعريفًا نهائيًا لعلاقتها بالناس: الاحترام أولًا، والخوف من خذلانهم قبل الخوف من الفشل. في هذه الجملة وحدها تفسير لسبب بقائها، وسبب أن صوتها لم يكن يومًا مجرد طرب، بل علاقة ثقة ممتدة عبر الزمن. عندما تتحدث عن الغناء في مسرح الأوليمبيا، لا تتوقف عند رمزية المكان ولا عند اعتراف الغرب بالفن العربي، بل تقول إنها شعرت كأنها في مصر، لأن الجمهور كان عربيًا، كأنها تعيد تعريف العالمية من موقع ثابت لا يتزحزح، موقع لا يسافر بحثًا عن الاعتراف، بل يحمل هويته معه أينما ذهب.
حتى حديثها عن الرسائل التي وصلتها بعد الحفل، تختار رسالة امرأة مريضة لم تستطع الحضور، لا رسالة ناقد كبير ولا شخصية نافذة، كأنها تقول إن القيمة الحقيقية للفن لا تُقاس بالمنابر، بل بمدى وصوله إلى من هم خارج الضوء، ثم يأتي السؤال عن الأجر، وعن التبرع بإيراد الحفل للمجهود الحربي، فيمر الرد في جملة واحدة صادقة: “مش كتير عليه”. لا خطابة، لا استعراض وطنية، لا دموع أمام الكاميرا. جملة قصيرة، حاسمة، تختصر موقفًا كاملًا، وتعيد في لحظة واحدة ترميم شيء من الكرامة بعد الهزيمة، كأن الفن هنا لا يواسي فقط، بل يشارك في الفعل.
اللافت في هذا الحوار ليس فقط ما قالته أم كلثوم، بل ما امتنعت عن قوله. إنها لا تحب التوقع، لا تعلن عن أغنية قبل أن تُغنى، لا تسبق الأحداث ولا تلهث خلف الزمن، لا تعد بما قد لا يتحقق، كأنها تتعامل مع الكلام بنفس الصرامة التي تتعامل بها مع الغناء: كل كلمة التزام، وكل وعد عبء يجب تحمله. حين تُسأل عن باريس ومصر، عن ما يمكن أن نتعلمه هناك أو نفتقده هنا، تقلب السؤال بهدوء ذكي، وترفض فكرة التقليد، لا بدافع الانغلاق، بل بدافع الوعي بالذات، الإعجاب لا يعني التقليد والهوية لا تقاس بالمقارنة: “إحنا لينا تقاليدنا”، تقولها دون شعارات، دون انفعال، كأنها تضع حدًا فاصلًا بين الإعجاب المشروع وفقدان الهوية. حتى حين تتحدث عن الموضة والمرأة الفرنسية، تختار كلمات متوازنة، خالية من الأحكام القاطعة أو المقارنات الجارحة. وعندما تختار المسلة مكانها المفضل في باريس، كأنها تسترد قطعة من التاريخ وتضعها بهدوء في قلب الحديث، لا تختار رمزًا سياحيًا شهيرًا، بل حجرًا مصريًا واقفًا في قلب المدينة، لأن المسلة “بتاعتنا”، لأنها شاهدة على أن الحضارة لا تُغترب، بل تبقى، حتى وهي بعيدة.
وأنا أشاهد هذا الفيديو، أدركت أن أم كلثوم لم تكن تحتاج أن تغني لتؤثر. صوتها وهي تتحدث كان كافيًا ليقول كل شيء عن فن يعرف قيمته، وبلد يتعافى، وامرأة تفهم أن الكلمات، مثل النغم، إن لم تُحسن اختيارها، فقد تخون صاحبها. صوتها كان يحمل نفس الوقار، نفس القدرة على الطمأنة، نفس الإحساس بأن هناك من يعرف ماذا يقول ومتى يصمت. هذا اللقاء ليس مجرد حوار تليفزيوني قديم، بل لحظة نادرة تكلمت فيها مصر بهدوء بعد الجرح، دون صراخ، دون ادعاء قوة، بل بكرامة تعرف أن القليل، إذا قيل في وقته، يمكن أن يعني الكثير. وربما لهذا ظهر الفيديو أمامي بالصدفة، لأن بعض الأصوات لا نبحث عنها، هي التي تعرف متى تعود، ومتى تذكرنا أن الكلام، حين يُحسن اختياره، يمكن أن يكون وطنًا مؤقتًا نلوذ به، حتى في أكثر اللحظات هشاشة.
