حين يكبر “الأنمي” معنا: هجرة من الطفولة إلى البلوغ

المجتبى الوائلي

25 كانون الأول 2025

هذا المقال يتتبع رحلة الأنمي ويكشف كيف أصبحت هذه الشرائط جسراً بين الطفولة والبلوغ، ونافذة يطل منها العراقيون على خيالٍ مختلف تماماً..

بينما ينشغل الكثيرون عادة​ ​بعد ساعات العمل الطويلة، أو ضغوط الدراسة الثقيلة بطيف من الخيارات الترفيهية التي تُسَرّح العقل من أحماله، بجولة دومينو مثلاً رفقة صُحبة مُعتادة، أو فيلم سهرة مع العائلة. اعتَدْتُ منذ سنوات اختيار الأنمي وسيلة من بين الوسائل لهذا الغرض، فمنذ عَقْدٍ ونصف تقريباً، وأنا أواظب على متابعة المسلسلات الكرتونية اليابانية، حتى أظنني تجاوزت ثلاثة آلاف حلقة إلى الآن. 

ورغم ذلك، فهذه الرحلة لم تكن بالدرجة المتوقعة من الاعتيادية، فالأنمي خيارٌ كثيراً ما يُعرّض صاحبه للمضايقات، بل والتنمر أحياناً. 

لكن ​”الأنمي” ليس بالغريب عنّا، فهل فات أحد متابعة “غريندايزر”، أو الانشغال بمصير المحقق كونان؟ فمع شحة السجلات التي توثِّق عرض أولى الأنميات في العراق، لابُدَّ من أن الكثيرين يذكرون عرض بعض الأنميات الشهيرة التي أدمنوها، مثل “مغامرات نيلز” في الثمانينات، أو “مرجان والفرسان الثلاثة” في التسعينات، أو “بوكيمون” في بدايات الألفيّة الجديدة، فهذا الطقس المتمثل بمشاهدة الرسوم المتحركة يُعتبر من بديهيات الطفولة منذ نصف قرن على الأقل تقريباً. 

يقول​​ مروان عادل، الذي تجاوز عقده الرابع تواً، ويعمل مديراً تنفيذياً في إحدى الشركات، إن رحلته الثانية مع الأنمي بدأت منذ  15 عاماً، بعد قطيعة مؤقتة عقب نهاية الطفولة، ودافعه للانغماس مجدداً كان ما يتمتع به الأنمي من قدرة على تجسيد الخيال تتجاوز السينما، بالإضافة إلى الخصوصية التي تضيفها الثقافة اليابانية لهذا النوع من المنتجات البصرية.  

فالأنمي بالنسبة لعادل يسمح باكتشاف عوالم خيالية لا يمكن للوسائل الأخرى توفيرها، ويقدم “تجربة فانتازية” أقرب إلى الروايات منها إلى الأفلام أو المسلسلات الحيّة. وهذا يوفره أنميّهُ المفضل “الهجوم على العمالقة”، الذي يرى فيه انعكاساً للتخندقات العقائدية والإثنية التي نعيشها اليوم، حيث يرى كلُّ ذي موقف أنه صاحب الحق المطلق، بينما يقصي الرأي الآخر بدون التوقف لحظة لرؤية الأمور من منظار هذا الآخر. 

بينما يرى سنان نزار في الأنمي لوناً فنياً مختلفاً لا يتوفر في السينما الحيّة، لأن الخيال الذي يتمتّع به كُتّاب الأنمي مصدره مختلف، قادم من الشرق، وبالتالي لا تكون “الفانتازيا” الناتجة عن خيالاتهم شبيهة بتلك المستوردة من الغرب، ما يمنحه، بحسب وصفه، تنوعاً ضرورياً.  

يفضل سنان، الذي يمتهن التمثيل ويبلغ من العمر 40 عاماً، الأنميّات الرياضية، وخاصة “سلام دانك”، لأن في شخصيّة بطله “حسّان” تشابهاً معه، إذ يخلط الجدَّ بالضحك، ويرى في هذا التصنيف حافزاً على ممارسة الرياضة. 

أمّا حوراء ساهي، وهي طبيبة تبلغ الـ23 من العمر، فترى في الأنمي، الذي تابعت منه مئات الحلقات حتى الآن، انعكاساً للمشاعر والعواطف التي اعتادت اختبارها في العالم الواقعي، ورغم ميلها إلى تصنيف “الدراما”، لكن ذلك لم يمنعها من اختبار شعور الحماس الذي تقدمه بعض  الأنميات الخيالية مثل “ديث نوت”، الذي يُبيّن بالنسبة لحوراء مخاطر حيازة القوّة المطلقة التي قد تؤدي بصاحبها إلى الجنون بينما يظنُّ نفسه وصياً على الحق والعدل. 

تقول حوراء: “أضاف لي الأنمي خيالاً واسعاً، وعلّمني كيفية التعامل مع المشاعر، والتحكّم بالعواطف، ومواجهة الأزمات والانكسارات”. 

يؤكد الأنثروبولوجي الأمريكي إيان كوندري، مؤلف كتاب “روح الأنمي”، الأفكار التي تحملها حوراء عن الأنمي، إذ يرى أن هذا المُنتج الياباني يُخاطب العاطفة والخيال الجمعي بدلاً من اقتصاره على مخاطبة أعمارٍ بعينها، كما يُقدِّم عوالم متكاملة وقيماً فلسفية تناقش أحياناً مواضيع مثل الهوية والقدر والموت والبطولة والذكريات، فالأنمي يُقدِّم لمشاهديه تعقيداً سردياً وشخصيات ذات عمق نفسي يندر تقديمها في الأعمال الحية، لذلك أصبح الأنمي بحسب رأيه “جسراً وجدانياً” يصل الطفولة بالبلوغ. 

“أفلام كارتون”.. أحكامٌ نمطية 

لكن كل ذلك لا يُعدُّ كافياً لتصويب النظرة النمطية التي تُحدِّد الأنمي بمرحلة الطفولة، إذ يُجيب حسين الحمداني، الذي دخل تواً عقده الثالث، بكلمة “طبعاً” على سؤال ما إذا كان قد تعرض يوماً للمضايقة نتيجة متابعته الأنمي، وكذلك الحال بالنسبة لمروان عادل الذي أكَّد هذا الأمر، مضيفاً أن الحال بدأت بالتحسُّن تدريجياً، فالزيادة في شريحة متابعي الأنمي ساهم في تحويل هذه الظاهرة إلى أمر اعتيادي وخفَّفَ من حالة “الاستغراب” في المحيط العراقي. 

بالمقابل، لا تزال هناك أصوات رافضة لهذه الظاهرة، انعكست مؤخراً خلال الحفل الذي استضافته مدينتي بغداد والبصرة وقُدِّمَت فيه جملة من الأغاني الافتتاحية الشهيرة  لسبيستون قدمها طارق العربي وأبناؤه، إذ أثار الحفل حفيظة من يرون في الأنمي خطراً أخلاقياً أو تغريباً ثقافياً، ما دفع أحد المدونين إلى التهديد علانية كل من ينوي تنظيم حفل في مدينة الناصرية التي أُشيع أنها ستستضيف فرقة سبيستون.  

مع ذلك فقد أثنى المتحدث باسم وزارة التربية والإعلامي، كريم السيد، على تنظيم حفل “كوكب بغداد” معتبراً إياه من الظواهر التي تصنع السعادة في مجتمع اعتاد إساءة الفهم في كل مناسبة، والتسابق لوصم مثل هذه الظواهر بشتى أنواع التأويلات غير المنطقية. 

لكن ليس العراقيون وحدهم من يعانون من إساءة الفهم هذه، إذ يكتب الأمريكي نويل أوغاوا في ​​مقال نشره على منصة “كرانشي رول” المختصة بالأنمي، أن والده كان قلقاً من استمراره في مشاهدة الأنمي، واعتبره من الموادّ الموجهة للأطفال حصراً، بينما اعتاد التعرض للمضايقات من محيطه الاجتماعي كلما اكتشف أحد اهتمامه “الغريب” هذا. يضيف أوغاوا بأن الأنمي ليس شيئاً واحداً يمكن الحكم عليه ككل، بل وسيط إعلامي تتنوع فيه الأصوات والقصص نظراً لتنوع رواة هذه القصص.   

بينما يزيد دانييل دوكيري في مقال على “كرانشي رول” بأنه لا عمر محدد للاستمتاع بالأنمي، فلا دراسة هناك تؤيد هذا الزعم، لذا فالأنمي ليس بحاجة إلى مرشدين يخبرون الناس بالتوقف عن مشاهدته والاستمتاع به لتقدمهم في السن. ويضيف بأنه كان يستمتع خلال طفولته بالمعارك التي يقدمها “دراغون بول”، بينما صار يستمتع اليوم وهو بالغ بإدراك مناقشة الأنا والرجولة والأبوة في الأنمي ذاته.  

الأنمي كقوّة ناعمة 

أول أنمي أُنتِجَ في اليابان يعود للعام 1917، أي منذ عصر الأفلام الصامتة، وفقاً لموقع nippon، فصناعة الأنمي مرّت بانعطافات عديدة وتأثرت بالمنافسة مع الولايات المتحدة، التي امتلكت في هذا المضمار العملاقة “ديزني”، مع ذلك يشير كوندري إلى أن صعود الأنمي جاء أساساً كردّ فعل على نكسة الحرب العالمية الثانية وتحوّل اليابان من بلد تصنيع إلى بلد ثقافة، وهذا التحوّل يمثّل جوهر “القوة الناعمة” التي جذبت العالم إلى اليابان لا بسلعها المادية، بل بخيالها وقيمها الإنسانية، من أجل إعادة تقديم نفسها مجدداً للعالم. 

إلا أن اليابان لم تُسوِّق هذه السلعة الثقافية وحدها، بل إن ما حصل يدعوه كوندري بـ”الإبداع التشاركي”، وهي حالة فريدة اجتمع فيها صُنّاع الأنمي والمشاهدون والموزعون محلياً وعالمياً على المشاركة في الإنتاج، بواسطة الترجمة وصناعة “الميمز” وتنظيم المؤتمرات والمهرجانات، وبذلك لا يُعد جمهور الأنمي مستهلكاً سلبياً، بل مؤثراً فاعلاً في نشر هذا الفن وتسويقه عالمياً بشكل تطوعي.  

آفاق اقتصادية

للأنمي وجهٌ اقتصادي أيضاً، فسيف علي، البالغ من العمر 32 عاماً، يدير متجراً لبيع سلع الأنمي وينظم مهرجانات تجمع محبيه. يقول سيف إن شغفه الشخصي قاده لتحويل هذه العادة إلى تجارة رابحة، رغم معاناته من إساءة الفهم المتمثلة في وصفهم أحياناً بـ”عبدة الشياطين” أو “الأطفال”. وبدايته كانت بطلب سلع من متجر أمازون عبر الإنترنت لاقتنائها، ثم فكر في عرض بضع قطع للبيع على سبيل التجربة، وبعدما لاقت رواجاً في محيطه، قرر اعتمادها كمهنة، ولا يزال على هذه الحال منذ سنوات.  

يضيف سيف بأن سوق الأنمي يواجه مثل أي سوق آخر فترات من الركود والازدهار، وهذه الفترات ترتبط بنوعية الأنمي المهيمنة على منصات المشاهدة، فكلما كانت مؤثرة وذات شعبية تحسن سوق الأنمي في العراق. 

​​​عالمياً، يُشكِّل الأنمي حوالي 60 بالمئة من سوق الرسوم المتحركة في العالم، بحسب كتاب “روح الأنمي”، وتدرُّ عائدات تصدير سلعه على طوكيو ما يصل إلى ملياري دولار سنوياً، ولأجل ذلك تنتج اليابان ما يصل إلى مئة أنمي كل عام، فهذه الصناعة تمثل شرياناً اقتصادياً للكثير من رعاياها. أمّا في العراق، فيصعب الوقوف على حجم استهلاك الأنمي، والسبب يعود إلى قلّة الاهتمام بحماية الملكيات الفكرية التي تسمح للمستهلكين باعتماد مواقع القرصنة وسيلة للمشاهدة بدلاً من المنصات الرسمية. 

فوائد وأضرار

ورغم المبالغة في الخطاب المعادي للأنمي ثمة دوافع موضوعية للقلق من تحوله إلى ثقافة بديلة مهيمنة، فلكل مجتمع خصوصياته وسياقه القيمي. وليس القلق من الأنمي حكراً على المجتمعات الشرقية، فقد عرف الغرب نفسه هذا الشعور في التسعينات، حين تصاعدت شعبيته في فرنسا والولايات المتحدة إلى درجة دفعت بعض النقاد منتصف التسعينات لوصفه​​بـ”الغزو الياباني لعقول الأطفال”. فبينما كان الكارتون الأمريكي حكراً على الطفولة، كسر الأنمي هذا التعريف وقدّم أعمالاً تتناول أفكاراً أعقد، وهو ما أربك التصنيف الثقافي الغربي نفسه. 

بيد أن الخطر لا يكمن في الأنمي ذاته بحسب كوندري، بل في الفراغ الثقافي المحلي الذي يترك الشباب بلا بدائل مكافئة له في الجودة والتخيل. وبالتالي، فالحل ليس في “مكافحته”، بل في إنتاج سرديات محلية تمتلك الجاذبية نفسها. وهو تحليل يمكن إسقاطه على العراق الذي يفتقر إلى الكثير من مجالات الإنتاج القادرة على نشر وتسويق السرديات المحليّة من خلال الفنون كافّة وليس الأنمي فحسب. لذا، لا يكمن الخطر الحقيقي في الأنمي، بل في عجز مؤسساتنا الثقافية عن إنتاج خيالٍ ​​يُنافسه.  

يعيش الأنمي في العراق اليوم أزهى فتراته، إذ تتربع على لائحة الصدارة فيه أنميات مثل “قاتل الشياطين” و”وان بيس” و”جوجيتسو كايسن” و”أكاديمية بطلي”، مُجتذبةً إلى عوالمها ما يُمكن تقديره بآلاف الشباب، من دون خشية السقوط في فخ المبالغة. هذه الأنميات، على تنوّعها، فيها ما يثري الذائقة العراقية، حتى أمكنها ترك تأثير واضح على المشاهد العراقي رغم اختلاف واقعه عن “الثيمات” الثقافية التي تتضمنها. ومع ذلك، تظلُّ هناك مساحة للمزيد من الملتحقين بركب هذا النوع من الترفيه البصري. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر – editor@jummar.media