دمشق – “أردت العودة إلى سوريا بأي ثمن. اللجوء هو أقسى تجربة عشتها في حياتي، وربما تبقى الأقسى إلى حين مماتي”. هذا ما تقوله ناهدة الست (33 عاما) واصفة تجربتها في العيش بخيمة على مدى 9 سنوات في بلدة عرسال في لبنان.

وتضيف ناهدة، التي عادت قبل 8 أشهر برفقة زوجها وطفليها إلى شقة في منطقة الحجر الأسود في ريف دمشق “على الأقل هنا في سوريا نعيش تحت سقف وبين معارفنا، ولدينا حرية الحركة والعمل وإعادة أولادنا إلى المدارس”.

ووفق حديث ناهدة مع “الجزيرة نت”، فإنه رغم الدمار وسوء الخدمات وغلاء السلع الأساسية في منطقتها، فإن زوجها أحمد تمكن من إيجاد عمل في مجال الصيانة الكهربائية، وبفضل العمل أصبح “الوضع مستورا والحمد لله” وفق تعبيرها.

وبحسب بيان أصدرته المفوضية الأممية السامية لشؤون اللاجئين الأسبوع الماضي، فقد عاد مليون لاجئ سوري إلى بلادهم خلال الأشهر التسعة الماضية. وبالإضافة إلى هؤلاء، فقد عاد 1.8 مليون شخص ممن نزحوا داخل البلاد خلال 14 عاما من الحرب إلى ديارهم.

ولكن مقابل صعوبة التكيّف التي قد يواجهها بعض العائدين، نتيجة قلة فرص العمل وضعف الخدمات، فإنه من المتوقع أن تؤثر عودة اللاجئين إيجابيا على واقع الاقتصاد السوري. فما تلك الآثار؟ وما أهميتها؟

عودة اللاجئين تمثل طلبا إضافيا على السلع في الأسواقعودة اللاجئين تمثل طلبا إضافيا على السلع في الأسواق السورية (رويترز)انتعاش الأسواق

يرى الخبير الاقتصادي عبد العظيم المغربل أن عودة اللاجئين من شأنها أن تنعش الأسواق بشكل ملحوظ من خلال ارتفاع الطلب على الاستهلاك اليومي والسلع المعمّرة، كالسيارات والأثاث والمعدات ومتطلبات السكن، مما يؤدي إلى تحريك المبيعات والخدمات المرتبطة بها.

لكن المغربل يلفت إلى أنه عندما تكون القدرة الإنتاجية المحلية ضعيفة أو كلفة الإنتاج مرتفعة، يتجه جزء كبير من هذا الطلب تلقائيا نحو السلع المستوردة، لكونها الأسرع توفرا والأوسع حضورا.

ويؤكد المغربل، في حديث للجزيرة نت، أن توجيه هذا الطلب نحو الإنتاج المحلي، عبر دعم مدخلات الإنتاج والطاقة والتمويل وضبط الإغراق، يمكن أن يحول ارتفاع الطلب إلى فرص تشغيل وتنشيط للمعامل المحلية، بينما يؤدي غياب هذه السياسات إلى بقاء الرواج تجاريا قصير الأثر، مع اتساع الاعتماد على الاستيراد.

خبراء يطالبون بدعم المشروعات الصغيرة لتوفير فرص العملخبراء سوريون يطالبون بدعم المشروعات الصغيرة لتوفير فرص العمل (الجزيرة)مشاريع صغيرة ومتوسطة

وحول تأثير عودة اللاجئين السوريين على حجم ونوعية الاستثمارات داخل الاقتصاد السوري، يرى الخبير أن هذه العودة تحمل معها أنماطا جديدة من الطلب ورؤوس الأموال والخبرات، مما يفرض إعادة النظر في طبيعة الاستثمارات في المرحلة المقبلة، ويدفع السوق إلى تفضيل المشاريع الصغيرة والمتوسطة أكثر من الاستثمارات الثقيلة.

ويشير المغربل -في حديثه مع الجزيرة نت- إلى أن الاستثمارات التي تتحرك أولا تكون الأقرب إلى الناس، مثل التجارة والخدمات وورش الإنتاج الخفيف وأعمال الترميم والبناء، لكونها أسرع دورانا وأقل مخاطرة في بيئة غير مستقرة.

وفيما يتعلق بالعوامل التي قد تعزز أو تعيق تحول مدخرات العائدين لاستثمارات منتجة داخل البلاد، يوضح الخبير أن توجيه مدخرات العائدين نحو استثمار منتج يتعزز عند وضوح قواعد النشاط الاقتصادي، وحماية الملكية، وتسهيل إجراءات التراخيص والتمويل، وتوافر الطاقة، في حين أن ما قد يعيق ذلك هو تقلب سعر الصرف، وضعف الخدمات، واستمرار حالة عدم اليقين القانوني والأمني.

عودة اللاجئين تمثل فرصة للقطاع المصرفيعودة اللاجئين تمثل فرصة للاقتصاد من ناحية تحويل مدخرات لاستثمارات منتجة ولكن الأمر يحتاج لتوفر شروط (رويترز)فرصة للقطاع المصرفي

وحول الأثر المرتقب لتشغيل أموال العائدين وتأثيرها على الاحتياطي النقدي، يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي إبراهيم قوشجي أن الاقتصاد السوري يواجه تحديات تفوق بكثير قدرة التحويلات المالية القادمة من المغتربين، أو الأموال التي يجلبها العائدون من الخارج.

وأشار قوشجي إلى أن هذه التحويلات والأموال، رغم دورها في مساعدة الأسر على تغطية نفقات المعيشة اليومية أو ترميم المنازل المتضررة، تبقى خارج النظام المصرفي الرسمي، ولا تدخل ضمن الاحتياطي النقدي للدولة.

ومع ذلك، يوضح الخبير الاقتصادي -في حديث للجزيرة نت- أن حجم هذه الأموال يشكّل كتلة نقدية أجنبية كبيرة داخل السوق المحلية، ويمكن أن تتحول إلى عنصر فاعل في حال جرى استقطابها إلى الجهاز المصرفي.

وأضاف قوشجي أن إدخال هذه الكتلة إلى النظام المالي يسهم في تكوين رصيد مستقر من القطع الأجنبي، يساعد الدولة على إدارة مواردها النقدية، ويعزز قدرتها على تثبيت سعر الصرف، وهو ما ينعكس مباشرة على استقرار الأسواق، وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية.

دمار واسع في عدة مناطق بسوريا يتطلب إعادة بناءالدمار الواسع في عدة مناطق بسوريا يتطلب ضخ استثمارات ضخمة في مشاريع البناء (الجزيرة)أزمة سكن

ويلفت قوشجي إلى أن عودة المهاجرين واللاجئين إلى الداخل السوري تكشف بوضوح عمق أزمة السكن، حيث تشهد المدن الرئيسية ارتفاعا ملحوظا في أسعار الإيجارات. ويعزو ذلك إلى غياب مشاريع الإسكان الجديدة، وعدم إنشاء ضواح سكنية، إضافة إلى عدم إعادة إعمار المناطق المدمرة.

ويؤكد الباحث أن الخلل بين العرض والطلب يدفع القطاع العقاري إلى حالة من “الركود الهيكلي”، خاصة أنه يخضع لسيطرة ما يعرف بـ “تجار البناء”، مما يجعله قطاعا غير منظم يفتقر إلى التخطيط الإستراتيجي والرؤية الوطنية.

ويرى قوشجي أن هذا الواقع يمنع القطاع من أداء دور فعّال في إعادة الإعمار أو تقديم حلول مستدامة لأزمة السكن، ويؤدي في النهاية إلى استمرار ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، مما يفاقم الضغوط على الاقتصاد كله.

خبراء يؤكدون ضرورة بناء مساكن بسرعة في المناطق التي تعرضت للتدميرخبراء يؤكدون ضرورة بناء مساكن بسرعة في المناطق التي تعرضت للتدمير (الجزيرة)فرص وتحديات

ويقول إبراهيم حمود (29 عاما)، وهو مقاول ومؤسس مجموعة حمود للمقاولات العامة في مدينة عربين بريف دمشق، إن عودته إلى سوريا لم تكن قرارا سهلا، بل جاءت نتيجة ارتباطه العائلي والاجتماعي، ورغبته في المشاركة بعملية إعادة الإعمار بعد السنوات الصعبة التي شهدتها البلاد، مستفيدا من خبرته في قطاع المقاولات والإكساء (التشطيبات).

ويضيف إبراهيم، في حديث للجزيرة نت، أن عودته إلى سوريا من مصر قبل شهرين كانت بعد متابعته الأوضاع الأمنية والاقتصادية بدقة، وملاحظته مؤشرات واضحة على تحسن تدريجي، إضافة إلى توفر فرص مناسبة لتحقيق النجاح.

وأوضح المقاول السوري أن تجربته في الانخراط في سوق العمل خلال الشهرين الماضيين أكدت له وجود فرص حقيقية للنمو والعمل داخل البلاد، لا سيما في قطاعي المقاولات والإكساء، في ظل الحاجة المتزايدة للخبرات المكتسبة من الخارج لتنفيذ مشاريع البنية التحتية والترميم وإعادة التأهيل.

مطالبات للحكومة

ولكنه في المقابل يرى أنه هناك تحديات عدة لا بد للحكومة من التعامل معها ليكون اندماج العائدين بسوق العمل أفضل، ومن ذلك “توضيح القوانين أكثر وتطويرها، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتسهيل إجراءات التراخيص، بما يسهم في توفير فرص عمل جديدة وتخفيف التحديات التي يواجهها العائدون”.

ويقول إبراهيم حمود إن الحكومة تقدم بعض التسهيلات، ولكن الأمر يحتاج لتطوير أوسع وتقليص التعقيدات الإدارية.

ويوضح قوشجي أن الحكومة ركزت خلال العام الأخير على مشاريع البنية التحتية والمرافق العامة، خاصة في المناطق الحدودية، مع توقيع اتفاقيات مع شركات عربية ودولية، إلا أنه يؤكد أن هذه المشاريع ما تزال في مراحلها الأولى، ولم ينعكس أثرها بشكل ملموس على الاقتصاد أو سوق العمل، ولم تحفّز القطاعات الإنتاجية.