تُعدّ فكرة “المنطقة العازلة” من المفاهيم المركزية في دراسات الأمن الدولي وإدارة النزاعات، إذ نشأت تاريخيًا كاستجابة مباشرة لحقيقة ثابتة في النظام الدولي مفادها أن الجغرافيا ما تزال عنصرًا حاسمًا في إنتاج الصراع، وأن التماس المباشر بين أطراف متخاصمة يرفع احتمالات الانزلاق نحو المواجهة العسكرية، حتى في غياب نوايا الحرب المعلنة. من هذا المنطلق، لا تُفهم المنطقة العازلة بوصفها أداة سلام بقدر ما هي أداة لإدارة النزاع وتأجيل انفجاره، عبر خلق فصل مادي وزمني بين القوى المتواجهة، وتنظيم التهديد بدل القضاء عليه.

في السياق النظري، تتعامل المدرسة الواقعية مع المنطقة العازلة كوسيلة دفاعية بحتة، تنطلق من افتراض غياب الثقة وفوضوية النظام الدولي، حيث تبني الدول سياساتها الأمنية على أساس القدرات لا النوايا. فالمنطقة العازلة، وفق هذا المنطق، لا تهدف إلى حل النزاع بل إلى تقليص فرص الهجوم المفاجئ وكسب وقت إنذار مبكر، كما ظهر بوضوح خلال الحرب الباردة في نماذج مثل المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين. أما في نظرية توازن القوى، فتأخذ المنطقة العازلة بعدًا أوسع، إذ قد تكون دولة أو كيانًا كاملًا يُستخدم للفصل بين قوى كبرى متنافسة ومنع تمدد إحداها على حساب الأخرى، كما في الحالة الأفغانية بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية.

وتضيف نظريات الجيوبوليتيك الكلاسيكي، سواء في طرح ماكيندر حول “قلب العالم” أو سبايكمان حول “حواف اليابسة”، بعدًا استراتيجيًا يجعل من المناطق العازلة أحزمة احتواء ضرورية في الصراع على النفوذ العالمي. في المقابل، ظهرت نماذج أخرى كالمناطق المنزوعة السلاح أو المناطق العازلة الخاضعة لإشراف دولي، والتي تهدف نظريًا إلى تثبيت اتفاقات السلام أو إدارة النزاعات في ظل غياب الثقة، كما في حالة قوات اليونيفيل في جنوب لبنان.

غير أن الانتقال إلى الحالة اللبنانية – الإسرائيلية يكشف انحرافًا واضحًا عن هذه النماذج النظرية. فالمفهوم الإسرائيلي للمنطقة العازلة لا يقتصر على شريط جغرافي فارغ أو منطقة فاصلة محايدة، بل يُطرح كمفهوم أمني–سياسي مركّب يهدف إلى خلق عمق أمني داخل الأراضي اللبنانية، قابل للسيطرة والاستخدام الاستخباراتي والناري، بما يمنع أي تهديد فوري أو مستقبلي للمستوطنات الشمالية. ويترافق هذا الطرح مع محاولة إعادة تعريف السيادة عبر مصطلحات مثل “السيادة الأمنية” و”حماية المستوطنين”، في مسعى واضح لمنح الاحتلال غطاءً سياسيًا وقانونيًا.

تقوم الرؤية الإسرائيلية للمنطقة العازلة على عدة عناصر متداخلة، أبرزها توسيع العمق الجغرافي ليشمل مناطق تمتد إلى ما قبل نهر الليطاني، وطرح فكرة تفريغ سكاني أو تقنين عودة الأهالي بشروط أمنية صارمة، إضافة إلى السعي لفرض سيطرة أمنية فعلية بدل الاكتفاء بدور الجيش اللبناني أو قوات اليونيفيل. كما يظهر تناقض واضح بين الحديث عن وجود مؤقت وبين الدعوات إلى ترسيخ ترتيبات طويلة الأمد، ما يعكس غياب نية الانسحاب الحقيقي.

وتنبع هذه المقاربة من جملة دوافع أساسية، في مقدّمها فقدان الثقة الإسرائيلية بكل الضمانات السابقة، والخشية من قدرة حزب الله على إعادة ترميم قدراته بسرعة، فضلًا عن الضغوط الداخلية من المستوطنين الذين يرفضون العودة إلى مناطقهم دون ضمانات أمنية إسرائيلية مباشرة. كما تسعى تل أبيب إلى استغلال غياب توافق دولي حاسم لفرض وقائع ميدانية تُسوَّق لاحقًا كأمر واقع لا بد من التعامل معه.

ميدانيًا، تُدار فكرة المنطقة العازلة عبر وجود عسكري متحرك، وعمليات استباقية، ومنع إعادة الإعمار، واستخدام مكثف للأدوات الاستخبارية، بما يهدف إلى إضعاف البيئة الحاضنة للمقاومة ومنع إعادة تموضعها. دبلوماسيًا، يجري تسويق المفهوم من خلال إعادة صياغة لغوية وقانونية تُخفف من وقع الاحتلال، مع ممارسة ضغوط على قوات اليونيفيل ومحاولة إعادة تشكيل دورها بما يخدم الرؤية الإسرائيلية. أما إعلاميًا، فتُستخدم سردية حماية المستوطنين واستحضار الخوف الوجودي لتكريس شرعية داخلية وخارجية لهذه السياسات.

ويعكس خطاب قائد الفرقة 91 في جيش الاحتلال، شاي كيلفر، هذه المقاربة بوضوح، إذ يربط بين فشل الردع السابق وأزمة الثقة لدى المستوطنين، ويقدّم المنطقة العازلة الخالية من السكان كحل ضروري ومستقبلي، ما يمنح هذا الطرح غطاءً عسكريًا–سياسيًا إضافيًا.

خلاصة القول، إن المفهوم الإسرائيلي للمنطقة العازلة في جنوب لبنان لا ينتمي إلى نموذج نظري واحد، بل يمثل صيغة هجومية مفروضة بالقوة، تُستخدم كأداة احتلال مقنّع وإدارة نزاع غير متكافئ ضد فاعل غير دولتي. وهي لا تهدف إلى الاستقرار أو التهدئة، بل إلى فرض عمق أمني متقدم يمنع المقاومة من إعادة بناء قدراتها، ويعيد تعريف الجغرافيا والسكان كعناصر تهديد، في تجاوز واضح لمبادئ السيادة والقانون الدولي، ما يجعل المقاومة حقًا مشروعًا في مواجهة هذا النموذج العدواني.