
سامر زريق
نداء الوطن
ثمة مصادفات قدرية يمكنها أن تختصر الكثير من الشروحات لواقع مربك ومعقد. وهذه هي الحال مع أبو عمر، اللقب الذي يستمد حضوره من ارتباطه بثاني الخلفاء الراشدين، وأحد صحابة النبي المقربين، عمر بن الخطاب، أول من أرسى القواعد التنظيمية لبنية الدولة الإسلامية الناشئة، والذي تحول اسمه في العصر الحديث إلى لقب منتشر في الأوساط المجتمعية السنية مع تفاقم الانقسام المذهبي مع الشيعة، لما له من دلالات ترتبط بالبأس والعدل، وفوقهما صيروته رمزًا سنيًا خالصًا بعدما ذهبت الفرق الشيعية إلى جعله واحدًا ممن سلبوا الإمام علي حقه بالحكم.
بالتوازي مع انفجار فضيحة أبو عمر في لبنان، والتي لا نزال نشهد فصولها تباعًا، ظهر أبو عمر ثانٍ في سوريا على لسان رئيسها أحمد الشرع الذي ذكره بكلمات مؤثرة في فيلم “ردع العدوان” التوثيقي لذاك التحول التاريخي. والحال أن المقارنة بين النموذجين تكشف عمق الهوة بين سنة البلدين الجارين المتداخلين. في سوريا أناس أصحاب قضية اسمها الدولة، آمنوا بها، وحفروا جبالًا من صخر الموانع بإبرة الصبر. خلال 14 عامًا سقطوا كثيرًا، وخسروا كثيرًا، لكنهم لم يقنطوا، وكانوا ينهضون من كبوتهم المرة تلو المرة، حتى نجحوا بفرض أنفسهم وقضيتهم على العالم.
برز بينهم نموذج قيادي هو أسامة نمورة الملقب بـ “أبو عمر سراقب”، رفيق درب أحمد الشرع في الجهاد والسجن في العراق، وفي تأسيس جبهة النصرة عقب اندلاع الثورة الشعبية، والذي لعب دورًا محوريًا في التخطيط الاستراتيجي، وبناء الكفاءات العسكرية، وصياغة عقيدة قتالية لفصائل المعارضة، وصناعة جيل من المحاربين والقادة. اغتيل عام 2016 بقصف جوي، غير أن إرثه لا يزال فاعلًا، حيث ارتكز الشرع على خططه في إعداد عملية “ردع العدوان”، ويقول في الفيلم إيّاه إنه تذكره لحظة السجود على بوابة دمشق، وأنه حينما جمع قادة جنده ونظر إلى وجوههم وجد أن 70 % منهم تدربوا على يدي “أبو عمر سراقب”.
على النقيض منه “أبو عمر اللبناني”، والذي يمكن اعتباره بمثابة مرآة تظهر عدم وجود قضية جدية أو رؤية استراتيجية عند النخب السياسية السنية، حتى خارج دائرة التمثيل البرلماني. بمعزل عن الشخص نفسه، والشائعات التي تدور حول من أداره ووقع في شراكه، فهو نموذج لاستعجال النخب العبور نحو السلطة لا الدولة. إذ ذاك تغدو الدولة بمثابة عنوان يختصره كل بشخصه، لتتحول من مشروع استراتيجي طموح للنهوض بالمجتمع إلى أداة لتحقيق أهداف شخصية.
يعيدنا النموذج اللبناني إلى أواخر عصر الدولة العثمانية ونظام التحصيل والالتزام والمقاطعجية، والذي حمل في طياته بذور اهتراء السلطنة وانهيارها بعدما تفشى الفساد، وانتشرت عملية شراء النفوذ والمراكز والمناصب والألقاب لتحقيق مكاسب شخصية ومكانة اجتماعية. من بينها لقب الباشا الذي كان بمثابة جواز عبور نحو طبقة النخب المخملية. ليمسي أبو عمر بمثابة “صاحب السعادة” المعظّم أو “صانع السعادة” وحامل ختم الباشوية.
يبين الباحث السوري عمرو الملاح في دراسة عن “نظام التشريفات العثماني” بالاستناد إلى اللوائح التنظيمية التي أصدرها السلطان محمود الثاني عام 1832، أن “الباشوية” كانت ذات مراتب تتمتع بأهمية متفاوتة في الهرمية العثمانية. وكان لكل رتبة باشوية لفظ معين للتخاطب، تبدأ بـ “حضرة صاحب الدولة” لرتبتي الوزارة والمشيرية السيفية أو العسكرية، وتتدرّج نحو “صاحب السعادة” للفريق واللواء، و”صاحب العزة” لأمير الأمراء.
وهذا ما يفعله بالضبط نموذج “أبو عمر” بمعناه الواسع، والذي يشتمل على عدد كبير من الأشخاص، بعضهم يبرع في تكوين جسور مع فاعلين خارجيين وتضخيمها، وبعضهم الآخر متمرس في بناء شبكة علاقات داخلية متشعبة، وكلاهما يستغل البنية السياسية المترهلة ليوظف هذا الزاد في بيع “الباشويات” على اختلاف مراكزها ومناصبها. وبالتالي، فإن تحضير الأجواء لتوقيف صناع النموذج المنكشف بناء لإصرار من كُذب عنهم، كما تشير بعض المصادر، لن يعوق عملية إعادة إنتاجه بأشكال وأنماط أخرى. لأن الأصل في معالجة داخلية لمصدر الخلل هو غياب القضية وضعف الديناميات السياسية السنية.
