رنين متزامن ترددت أصداؤه وقت العصر، انبعث من آلاف أجهزة الاتصال الصغيرة المحمولة، ثم دوت انفجارات موضعية أوقعت ضحايا وإصابات وإعاقات في محيط كل منها. تكررت مشاهد تفجير أجهزة النداء (البيجر) بعد أربع وعشرين ساعة تقريبا، لكن مع حاملي “اللاسلكي” هذه المرة.

لم يكن ما جرى في لبنان يومي السابع عشر والثامن عشر من سبتمبر/ أيلول 2024 استهدافا بدنيا لأغراض القتل والإعاقة والإصابة والترويع وحسب؛ فقد أرادت قيادة الاحتلال الإسرائيلي عبر هذه الحيلة ترميم صورة المارد الأسطوري الذي لا يقهَر، بعد سنة تقريبا من انقشاع هيبته المرسومة في الأذهان والوجدان جراء أجرأ عملية “كوماندوز” عربية منذ اقتحام خط بارليف قبل نصف قرن (1973).

أفاق المحتلون صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على حدث مباغت اخترق التوقعات كافة، عندما اقتحم شبان فلسطينيون، مزودون بأسلحة خفيفة ودراجات نارية وأشرعة تحليق معززة بمحركات، أعتى الحصون الأمنية في العالم تقريبا، فسيطروا سريعا على “فرقة غزة” بجيش الاحتلال وتحكموا بقواعد وثكنات ومراكز للجيش وبمستوطنات شبه عسكرية، في عملية خاطفة حملت اسم “طوفان الأقصى”، ويمكن الاستنتاج بأن الأسوار المنيعة تقزمت في أذهان أولئك الشبان الفلسطينيين قبل أن يتجاوزوها برشاقة مذهلة.

ثم برمجت قيادة الاحتلال عملية أجهزة النداء واللاسلكي بعد سنة من ذلك الحدث المدوي ضمن مسعاها لاستعادة الهيبة وإعادة تفعيل حالة الترهيب الشامل في المنطقة من سطوة “الغول الإسرائيلي” الذي يفرض على الإقليم استبطان الذعر الرادع منه.

تلازمت سطوة قاعدة الاحتلال والاستيطان المغروسة في قلب هذه المنطقة مع حالة ردع مركبة لم تقتصر على الرادع التقليدي، ممثلا بالقوة العسكرية التقليدية المتطورة التي يضمن الحليف الغربي تفوقها المستدام على دول المنطقة جميعا، فقد استصحبت مبكرا الرادع النووي الذي يحتكر الإسرائيليون بمقتضاه هذا السلاح الإستراتيجي في المنطقة المحرومة منه.

ثمة “رادع تحالفي” يمكن احتسابه أيضا، يتمثل بالاستقواء بقوة عظمى أميركية- غربية تفرض على دول المنطقة نوعا من الإذعان للسطوة الإسرائيلية أو تسليما بمركزيتها الإستراتيجية في الإقليم، ومن شأن القوة العظمى تلك أن تتدخل لإنقاذ الموقف أحيانا، كما جرى في حرب 1973 مثلا، وقد دفعت بجسور إسناد جوي وحاملات طائرات بمجرد أن اهتزت الأرض من تحت أقدام المحتلين في خريف 2023.

أما “واقعة البيجر واللاسلكي” وملحقاتها فتجسد رادعا إضافيا يقوم على سطوة الاختراق الشامل الذي كانت له مقدمات مديدة من عمل مخابرات الاحتلال عبر عقود خلت، ثم صار يتجلى للعيان ماردا شبحيا يخترق الحدود السيادية والحصون الأمنية والتدابير الوقائية بانسيابية مذهلة، أو هكذا يراد له أن يبدو، على طريقة جورج أورويل في عمله الشهير “1984” الذي أنهى كتابته، للمصادفة، خلال نكبة 1948.

أذرع الاختراق الطولى

مثل جهاز “الموساد” تعبيرا تقليديا عن القدرة الاستعراضية الإسرائيلية على الاختراق والوصول إلى الأهداف أينما كانت، رغم إخفاقات متعددة مني بها في الواقع.

بدا عمل “الموساد”، ضمن أجهزة استخبارية إسرائيلية متعددة، تجسيدا أمينا لمبدأ “اليد الطولى” التي يزعَم أن بمقدورها الوصول إلى الخصوم والإجهاز عليهم أو اختطافهم برشاقة مع حبكة سوبرمانية أحيانا.

لا مجال للتهوين من المفعول المعنوي الذي أحدثته اغتيالات نفذتها أذرع الاحتلال في بلدان عدة رغم أن بعضها “اصطاد” أهدافا سهلة مبدئيا لا تحظى بالحماية، فالنتيجة المتوقعة أن تقفز هذه الاستهدافات بمنسوب الثقة الذاتية عند جمهور الاحتلال، وأن تزعزع الإحساس بالمنعة والحصانة في أعماق الإقليم العربي- الإسلامي مشرقا ومغربا، حتى شاعت انطباعات بين أجيال العرب المتلاحقة عن قدرات اختراق إسرائيلية أسطورية.

جدير بالنظر أن هالة الترهيب الانطباعية هذه مقصودة لذاتها أيضا، فلا غنى لبعض الاختراقات الأمنية الإسرائيلية عن حبكات استعراضية تبتغي زعزعة ثقة الإقليم بذاته، وتثبيط الروح المعنوية لدى الطرف المستهدف بالاختراق وقاعدته الجماهيرية أيضا، أي عموم الشعوب والمجتمعات في المنطقة.

أرادت قيادة الاحتلال المأزومة بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أن يعي جميعهم في بلاد العرب والمسلمين كيف أن أجهزة صغيرة محمولة، ظن القوم أنها ملاذ آمن من التنصت والتعقب، تنقلب فجأة إلى مفخخات تقتل أو تشوه الوجوه وتبتر الأطراف، ثم يتبين أنها إسرائيلية الصنع.

لاحظت الجمهرة أن قذائف موجهة استقرت فجأة في غرف نوم علماء نوويين خلال حملة قصف إيران فأحرقت من فيها جميعا، وأن قادة كبارا في بلدان الإقليم اختنقوا في طبقات حصينة تحت الأرض بمجرد أن اخترقتها قنابل أميركية لا يملك أحد في المنطقة نظيرا لها سوى دولة نتنياهو وبن غفير.

ثم إن نتنياهو تحديدا هو الوجه الملائم للاستعراض المسرحي، على النحو الذي طبقه حرفيا في مناسبات شتى، مثل مؤتمره الصحفي يوم الثلاثين من أبريل/ نيسان 2018. خرج رئيس وزراء الاحتلال يومها على المنصة، وأعلن للصحفيين بأسلوب تشويقي مفعم بالإثارة عن إنجاز غير مسبوق، على طريقة “والآن سيداتي سادتي مع المفاجأة الكبرى..!”. أعلن نتنياهو يومها الاستحواذ على الأرشيف النووي الإيراني، أو 110 آلاف صفحة تحوي وثائق وصورا ومقاطع مصورة، كما ورد.

بصرف النظر عن مدى دقة ما ورد في ذلك الإفصاح وقتها، وهل كان الأرشيف محدثا أم متقادما، شاملا أم مجتزءا؛ فإن العملية التي أزاح نتنياهو الستار عنها على الملأ بدت في شكلها ومضمونها استثنائية وأخاذة حقا للوهلة الأولى.

تحدث من كان رئيس “الموساد” وقتها يوسي كوهين، في مقابلة أجراها لاحقا (يونيو/ حزيران 2021)، عن تفاصيل تنفيذ تلك العملية بعد تحضيرات استغرقت سنتين، وكيف تسلل عملاء الجهاز الاستخباري إلى مستودع وكسروا أكثر من ثلاثين خزينة ثم خرجوا بالمحتويات ولم يلحق أذى بأي منهم، حسب الرواية، مع الإشارة إلى أنهم جميعا لم يكونوا إسرائيليين.

على منوال تلك الاختراقات الجسيمة جرت اغتيالات دقيقة التدبير في العمق الإيراني، من أبرزها اغتيال محسن فخري زاده، الذي يمكن اعتباره كبير الباحثين النوويين في العالم الإسلامي حتى حينه، الذي جرى استهدافه في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 على طريق خارج طهران بأسلوب جمع بين تهيئة مسرح جريمة الاغتيال على الأرض والتوجيه التقني والاتصالي عن بعد.

رادع الاختراق الشامل يفرض شعورا دائما بالانكشاف، إذ لا يحتاج إلى تفعيل فعلي بقدر ما يعتمد على إشاعة قابلية التتبع، حتى من داخل الأجهزة المنزلية والسيارات

استعراض سطوة الاختراق

لم ينفك نتنياهو وقادة الاحتلال الآخرون عن نزعة استعراض السطوة، وكان من تصريحاته اللافتة للانتباه في هذا الشأن ما خرج به في سبتمبر/أيلول 2025، عندما التقى وفدا من الكونغرس الأميركي: “إذا كان لديك هاتف محمول فأنت تحمل قطعة من إسرائيل”.

صحيح أن هذه العبارة قابلة لأن تقرأ من زوايا لا تقتصر على التأويل الأمني، فهي في الأساس محاولة لتجديد الثقة بقدرات ما يسمى “وادي السيليكون” الإسرائيلي التي يحسَب أنها تراجعت في زمن الحرب؛ لكنها تشير بلا ريب إلى وعي قيادة الاحتلال بموقعها المتصدر نسبيا في مؤشرات القوة التقنية والشبكية، ومن شأن هذا أن يمثل أرضية مثلى للاختراقات المبرهن عليها بشواهد عملية في الواقع.

يمكن القول بكلمات أخرى إن “رادع الاختراق الشامل”، كما قد نسميه، هو بمثابة حالة تطورت عن “إنجازات الاختراق” التقليدية المعهودة عن كيان الاحتلال، فمساعيه صارت توظف أدوات العصر التقني والاتصالي والشبكي الجديد لصالحه بفاعلية مذهلة، أو هكذا يفترض، وهو يحرص على تطوير إمكاناته على نحو يستبق الآخرين في هذا العالم، صارت معه فلسطين المحتلة بؤرة متصدرة عالميا في التطوير التجسسي الفعال.

يتعين الإقرار بأن قاعدة الاحتلال العسكرية والأمنية واكبت تطورات العصر في هذا الحقل، فقد أدركت أفول زمن المخبر ذي الصحيفة المثقوبة، واستراق السمع عبر الحائط أو بالتنصت عبر أجهزة تناظرية متقادمة، فهذه جميعا صارت مثار تندر في أجهزة الاستخبارات الحديثة حول العالم التي تلجأ إلى جديد الرقمنة ومبتكرات الذكاء الاصطناعي، على نحو يرصد مجالات المراقبة المرغوبة جماعيا وتفصيليا ويجعلها في حالة انكشاف زجاجية شاملة كما يفترض.

من المهم في هذا السياق تعريف قاعدة الاحتلال والاستيطان الاستعمارية التوسعية في فلسطين على أنها قاعدة حربية وأمنية أيضا بصفة تتجاوز حدود جغرافيا الأرض المحتلة.

وغني عن القول أن هذه القاعدة أوتيت قدرات استخبارية مكثفة أودعت فيها، على نحو اختمرت فيه القابلية الذاتية لمجتمع الجيش والأمن والاستخبارات الذي يشكل عمودا فقريا للكيان الإسرائيلي، مع تسهيلات مركبة وإسناد استخباري وتقني عالي المستوى من حلفاء غربيين، وأدوار التخادم والاعتماد المتبادل في تشارك المعلومات الحساسة عبر أجهزة مختصة عبر العالم، وتنفيذ خدمات ميدانية منها لصالح الكيان، مثلا لا حصرا، مهام طائرات الاستطلاع التجسسي البريطانية فوق قطاع غزة خلال سنتين من حرب الإبادة وفق التقارير والتحقيقات المنشورة بهذا الشأن.

ولطالما عدت هذه السطوة الأمنية والاستخبارية من مغريات الانزلاق التطبيعي في المنطقة، التي تهيئ لبعض الممسكين بأنظمتها أنه لا طاقة لهم بإسرائيل وجنودها وأن بوسعهم اقتطاع نصيبهم من “الخبرة الإسرائيلية” في المجال الأمني.

على أن المعروض إسرائيليا على شركاء التطبيع المفترضين ليس تقاسم الخبرة والاشتراك في الحظوة، بل شراء “منتجات أمنية” محددة قابلة للاستخدام في الأساس لاختراق الشعوب والمكونات الأهلية وتعقب قيادات الجماهير القائمة أو المحتملة، وهذه مصلحة إسرائيلية مركبة أيضا.

تربح قاعدة الاحتلال الأمنية من عوائد الترويج السخية فتدعم ريادتها الإقليمية والعالمية، وتستفيد في الوقت عينه من حصيلة تشغيل تقنيات الاختراق والتلصص التي تستغل الأجهزة المحمولة والشبكات والرقمنة لتصير عيونا وآذانا ترصد الكلمات والحركات والهمسات، دون أن يمس ذلك أمن كيان الاحتلال ذاته الذي يراد له أن يحتفظ بسطوة الاختراق الشامل فوق المنطقة عموما.

من القسط الإقرار بصعود رادع الاختراق الشامل في واقع الإقليم العربي-الإسلامي، على أساس يمنح الأطراف جميعا، حكومات وأنظمة وجيوشا وأجهزة وأحزابا وقادة ومجتمعات وأفرادا، انطباعا متعاظما بالانكشاف، أو بقابلية الانكشاف على الأقل، للعين الإسرائيلية التي ترصد وتراقب وتتعقب من زوايا خفية غير متوقعة، وأن ثمة “قطعة من إسرائيل” تصحب كلا منهم في هذا الإقليم، وربما العالم، ترافقهم على مدار الساعة، لا تبرح مجالسهم ولا تفارق أعمالهم، وقد تقتحم خصوصياتهم أو تتسلل إلى مخادعهم كحال الأجهزة المحمولة والثابتة في استعمالاتها اليومية.

من شأن ذلك أن يثير شهية قصور حكم وأجهزة استخبارات على مستوى الإقليم لاقتناص شيء من هذا الاقتدار التقني المذهل كي تتلصص به هي الأخرى على ما يجري تحت أقدامها ومن حولها وعلى معارضيها الداخليين ومنافسيها الإقليميين، دون أن يكون الإسرائيليون ضمنهم بطبيعة الحال.

يجوز اعتبار لجوء أطراف إقليمية إلى “خدمات” برنامج التجسس الإسرائيلي الخبيث “بيغاسوس”، الذي اكتشف عرضا سنة 2016، تجسيدا أوليا فقط لمنحى تتعاظم أمواجه المتلاطمة بلا هوادة في واقع الارتهان الأمني المستجد للسطوة الإسرائيلية.

والمفارقة هنا أن من يلجأ إلى استخدام أدوات الاختراق الإسرائيلية قد يكون بالأحرى أول المتعرضين للانكشاف التقني الذي يحوز امتيازه الجوهري مصدر “الخدمة”، أي قاعدة الاحتلال الأمنية، وسيبقى رهينة هذه الحالة الاعتمادية المتجددة على إصدارات محدثة من أدوات التجسس والتلصص التي يطلبها، ويفترض فوق هذا أن لدى مطوري “خدمة” الاختراق قابلية ما تتيح لهم الحصول على بيانات حساسة من مجمل عمليات التعقب والتلصص التي يباشرها “عملاؤهم” في بلدان متعددة.

بانوبتيكون إسرائيلي: مفهوم قابلية الانكشاف

تقوم سطوة رادع الاختراق الشامل على قابلية الانكشاف، أي فقدان اليقين بالأمن والحصانة جراء استشعار احتمالية الوقوع في دائرة الرصد والتعقب والتلصص، التي يصعب الجزم بانتفائها لانعدام أداة الفحص الموثوقة بصفة مطلقة.

لا تقتصر أدوات الاختراق الشامل على أجهزة محمولة وشبكات تواصل اجتماعي وحسب؛ فسلطانها نافذ عمليا على نحو يغطي مجال الأجهزة الحديثة في الاستعمالات اليومية جميعا في زمن “إنترنت الأشياء” أيضا، بل حتى ما هو أكثر من ذلك.

يصير الجهاز المنزلي الذي يقتنى للمشاهدة أو غسل الملابس أو تنظيف الأطباق أو تحضير القهوة أو إضاءة المكان أداة اختراق محتملة جراء التشبيك المتزايد، ومعه أجهزة محمولة من شتى الأنواع، وكذلك السيارة الحديثة التي تنقل معلومات وإحداثيات وربما مواكبة مصورة إلى خوادم بيانات يصعب الجزم بوجهاتها الإجمالية، علاوة على اشتغال خوارزميات فعالة في التصنيف والتحليل وتشكيل توصيف دقيق لحالة الفرد الواقع في شباكها وتموضعه الاجتماعي وأواصره المتعددة واهتماماته وذوائقه.

قد يحدث هذا الاختراق المركب على وجه الشك والاحتمال في ظلال خدمات استعمال تقليدية تقدمها هذه الأجهزة والوسائل، ولهاجس الشك والاحتمال مفعوله في الردع أيضا.

لا يتطلب هذا الرادع المستجد تفعيل خيارات التعقب والتلصص بحق كافة المستهدفين أو عموم الجمهور كي يحقق مفعوله في فرض السطوة، كما يفترض نموذج السجن الدائري الذي وضعه جيرمي بينتام (1791) وسماه “بانوبتيكون” Panopticon أي “إبصار الجميع” أو مراقبتهم.

يشرف برج مراقبة أسطواني مركزي على الزنازين المكشوفة من حوله في هذا النموذج، ولذلك مفعوله المتوخى في فرض الانضباط على النزلاء جميعا حتى عندما لا يكون برج المراقبة المعتم مشغولا في الحقيقة، فإحساسهم المتكرس بالانكشاف من قبل المركز يفرض الانصياع عليهم ويجثم على إرادتهم بصفة تعيق مسعى التمرد أو تجتث روح التحرر.

ألهمت الفكرة بعض التجارب والممارسات حقا، وجرت محاولة تجسيد النموذج بعد قرن من الزمن (1881) في تشييد السجن المعروف باسم “لا موديل” في برشلونة، الذي اشتهر بسيرة القمع الرهيب بحق السجناء السياسيين خلال عهد فرانكو وحتى بعيد وفاته (1975)، وقد تناول الفيلم الإسباني “موديل 77” للمخرج ألبرتو رودريغيز ليبرورو (2022) تلك الأحداث من داخل هذا السجن الذي صار الآن مزارا عاما.

من الوهم افتراض أن عمليات أجهزة النداء واللاسلكي، وتعقب العلماء النوويين والمنشآت الحساسة، أو تنفيذ اغتيالات استعراضية أخاذة في بؤر كان يتصور أنها شديدة المنعة والحصانة، اقتصرت على استهداف أولئك الذين أجهزت عليهم أو أصابتهم أو أحرقتهم أو أعاقتهم وحسب، فالأثر الأوسع أريد له أن يتعمق في أغوار الوعي الجمعي العربي والإسلامي بواقع الاختراق الشامل المتصور الذي لا يعترف بحدود سياسية أو رايات سيادية، والرسالة المركزية تقريبا هي أنه لا منجاة لأحد من التعقب والترصد والتلصص وربما الاستهداف من جانب سطوة المركز الإسرائيلي.

هكذا أظهر نتنياهو ودولته سطوة استعراضية كي يرتدع الإقليم عن آخره، فمن متلازمات إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بتعبير قيادة الاحتلال، أن تعي مكونات المنطقة الدرس المؤلم بانكسار، فتخضع للعلو الإستراتيجي الإسرائيلي فوق رقابها، حكاما ومحكومين، تماما مثل المفعول المتوخى من نموذج سجن “بانوبتيكون” الذي صاغه بينتام وأعيدت قراءته في أعمال لاحقة عند ميشيل فوكو وزيغمونت باومان وآخرين.

منطق بانوبتيكون الرقمي يعيد تشكيل الشرق الأوسط، فالهاتف المحمول لم يعد وسيلة اتصال، بل مرآة لغرفة مراقبة إسرائيلية ترى وتسمع وتردع، وتفرض سطوة صامتة على الجميع

تبديد السطوة وسؤال التصرف

ثمة مقاربات قابلة للنظر في إحباط رادع الاختراق الشامل الذي يجثم على الوعي الأمني والروح المعنوية في المنطقة وإن لم يقر به، لعل أهمها إمكانية تحويل هذه السطوة إلى عبء ثقيل على مصدرها بالنظر إلى ما تستثيره من إحساس عام بتهديد ظاهر أو كامن يفترض أن لا يعفي أحدا من سطوته.

من المهم ملاحظة أن قابلية الانكشاف لا تقتصر على حدود الإقليم، فهي تشمل العالم أيضا، كما تبين، مثلا، مع الشكاوى العلنية من اشتغال برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي الذي ورد أن قادة كبارا وشخصيات معروفة حول العالم لم يسلموا منه.

فإن ابتغت هذه السطوة تحقيق حالة إذعان رائجة في المنطقة للعلو الإستراتيجي الإسرائيلي؛ فإن تعريف الإذعان على حقيقته هذه ينزع عنه كل التغليفات البراقة التي تذرع بها من جملوا انزلاقاتهم التطبيعية بشعارات السلام والوئام والتطلع إلى “مستقبل أفضل لأطفالنا وأطفالكم”!

ومن شأن إدراك هذه السطوة على حقيقتها، علاوة على متلازماتها العسكرية والعدوانية الأخرى المرئية؛ أن يحفز حالة رفض عارمة لكل انزلاق نحو مركزها الاحتلالي الاستيطاني التوسعي الذي يهدد الإقليم جميعه؛ وليس فلسطين وحدها.

ومن شأن الوعي الرشيد بخطورة رادع الاختراق الشامل أن يستثير مساعي وقائية وجهودا مضادة، وإن استغرق اختمارها زمنا مديدا، على اعتبار أن أي أداة كانت لا يتصور أن تبقى محتكرة لطرف محدد أبد الدهر.

أما في بعض المجالات الموضعية فإن منطق السطوة التقنية الحديثة يواجه معضلته الجوهرية في بعض المستويات والحالات مع “قوة الضعف”، المتمثلة باللجوء إلى خيارات بسيطة وتدابير بدائية متحررة من نطاق هذه السطوة، وقد قدم الميدان الغزي مثالا مكثفا في هذا الشأن أضنى أجهزة الاحتلال وعطل اشتغال بعض قدراتها المتطورة على الأقل.

يتعين عموما إدراك أن صنم السطوة المتصورة يتهاوى في الأذهان والوجدان قبل قرار حمل المعول لتحطيمه وإظهار هشاشته المرئية، وأنه لا غنى في التعامل مع هذا التحدي أو التهديد من حرمان “رادع الاختراق الشامل” من منطق السطوة الذهنية والوجدانية الذي يضفي عليه في التصورات هالة فوق بشرية، وكأنه لا قبل لأحد بمقارعته أو الالتفاف عليه.

يجدر أن تكون الخلاصات المؤلمة من واقع الانكشاف الإستراتيجي القائم مدخلا لتحفيز جهود المناعة الذاتية والتحصين الوقائي في زمن جديد يفرض منطقه المطور في الاختراق والوقاية، والأهم إدراك أن الأداة المطورة قد لا تبقى محتكرة لطرف محدد، بل قد ترتد على مصدرها من حيث لم يحتسب.

يبقى أن البديل عن إرادة التصرف هو الخضوع للسطوة، وأن يرضى القابعون في أقفاص الوعي بحال انصياع أبدية لمركز الإقليم الذي يراد له أن يتحكم بالمشهد على طريقة برج المراقبة في نموذج “بانوبتيكون” تقريبا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.