ما إن أُعلن رسمياً عن موعد عرض فيلم “الملحد” في دور السينما المصرية، حتى تفجّرت سجالات محمومة بين مؤيدي عرضه ومناهضيه، دارت في معظمها حول اتهامات بأن الفيلم يروّج لـ”الإلحاد”، ويدفع نحو تقبّل وجود “الملحدين” في المجتمع المصري. وبقي الرفض مستمراً رغم تأكيد بعض الشخصيات العامة والمبدعين ممن شاهدوا العرض الخاص للفيلم أنه ليس كما يُشاع عنه، إذ يعود بطل “الملحد” إلى الإسلام مرة أخرى بعد وفاة والده المفاجئة.
الهجوم الكاسح والإدعاءات الموجّهة إلى العمل السينمائي – الذي تقرر عرضه غداً الأربعاء 31 كانون الأول/ديسمبر 2025 – بُنيت في الأساس على اسمه (الملحد)، وكذلك اسم مؤلفه الكاتب والصحافي إبراهيم عيسى، المعروف بنقده لكتب التراث والتاريخ الإسلامي، ورفضه تقديس ما ورد فيها، إلى جانب مناهضته القوية لتيارات الإسلام السياسي، التي تلعب دوراً بارزاً في الهجوم على الفيلم.
وبعيداً من هذا الهجوم المنظّم ضد الفيلم، الذي تدور أحداثه حيال شاب تساوره شكوك بشأن الدين فيقرر “الإلحاد”، وأب سلفي يعزم على قتل ابنه تطبيقاً لـ”حدّ الردة”، فإن هناك قطاعاً عريضاً من عموم المصريين يرفض الفيلم ويتوجس من عرضه.
 
تفسير نفسي
ثمة أسباب نفسية لهذا الرفض القاطع. وفي هذا السياق تقول استشارية الصحة والإرشاد النفسي الدكتورة منى حمدي لـ”النهار”: “بطبيعتنا كبشر، نميل إلى التفكّر، وتنتابنا تساؤلات داخلية. وعندما لا يمتلك الإنسان قدراً كافياً من الثقة بإيمانه، فإنه يخشى أن يؤدي ظهور “الملحد” – ولو في هيئة شخصية سينمائية – إلى تحفيز التساؤلات والشكوك داخله”.
وتضيف: “يتزايد هذا التخوف لدى الأشخاص الذين يمرّون بأزمات قد تدفعهم إلى مزيد من التساؤل عن وجود الله، والعدالة، وغيرها من الأسئلة التي قد تطرأ على ذهن كثير من البشر، في منطقة تتأرجح بين الوعي واللاوعي، فيحاولون التهرّب منها أو كبتها خوفاً من الله، وتجنّباً لألم الشعور بالذنب”.
وتشير إلى أن “هذا الخوف ترسّخ بسبب المدارس الدينية التي تقوم على الترهيب أكثر من الترغيب، لذا بات الناس يتخوّفون من مشاهدة مجرد فيلم كهذا، بصفته أحد ميكانيزمات الدفاع النفسي”.
 
ولا يقتصر وصف “الملحد” في مصر على الشخص الذي ينكر وجود الله فحسب، بل يمتد ليشمل اللادينيين أو الربوبيين، والأخطر أنه قد يُطلق على من لديهم مجرد شكوك وتساؤلات بشأن الدين والوحي، أو الخالق وعلاقته بالبشر والعالم الذي يعيشون فيه.
إن توسيع هذا الوصف، أو بالأحرى الاتهام – عن جهل أو قصد – ليشمل أشخاصاً لا يزالون في مرحلة البحث عن إجابات شافية، يساهم في زيادة عدد من يُوصَفون بـ”الملحدين”، وفي المقابل يلعب دوراً مهماً في الضبط الاجتماعي، ويعزّز رفض ظهور “الملحد” في المجتمع بأي صورة، حتى وإن كانت تمثيلية.
الرقابة المجتمعية
ويقول الناقد الفني عماد يسري لـ”النهار”: “لا يوجد أي كاتب أو مخرج أو فنان يستطيع تقديم عمل سينمائي جريء تدور أحداثه حول شخصيات لادينية تعيش بيننا في المجتمع، بسبب الرقابة المجتمعية المتجسدة في مواقع التواصل الاجتماعي”.
وتجلّت إشكالية تزايد نسب “الإلحاد” بوضوح مع صعود تيارات الإسلام السياسي وسيطرتها على المشهد في عدد من الدول والمناطق عقب ما سُمّي “الربيع العربي”، إلا أن تلك النسب تبقى غير معلومة، في ظل غياب إحصاءات رسمية أو موثوقة.
ويضيف: “لن يجرؤ أحد اليوم على تقديم أعمال شبيهة بالفيلمين اللذين قدّمهما النجم الكبير الراحل نور الشريف في سبعينات القرن الماضي عن شخصيات لا دينية”.
وكان الشريف قد قدّم فيلم “الإخوة الأعداء” عام 1974، ولعب فيه دور ملحد صريح، وفيلم “لقاء هناك” عام 1976، فجسّد شخصية شاب يرفض الوصاية الدينية للأب.
 
ليس استثناءً
التصدي لعرض فيلم “الملحد” ليس حدثاً استثنائياً، ولا يرتبط بمؤلفه فحسب، بل يشكّل حلقة في سلسلة اعتراضات على تناول إشكالية الإلحاد في صيغة إعلامية أو فنية، يظهر فيها الملحد كشخص طبيعي للعيان.
ومن أبرز الأمثلة الفيلم التسجيلي “ممر الألم”، الذي لم يُسمح بعرضه في مصر سوى داخل نقابة الصحافيين المصريين في أواخر عام 2024، رغم أنه أُنتج بمعرفة مؤسسة بحثية دينية متخصصة في الإجابة على الأسئلة والشكوك التي تنتاب بعض الشباب، وهي مؤسسة “طابة”.
 
وتقول شيماء شرف الدين، منتجة وكاتبة سكريبت في المؤسسة المنتجة لـ”ممر الألم”، في حديث الى “النهار”: “أصبح طرح أي موضوع له علاقة بالدين عموماً، حتى لو كان مجرد مناقشة فكرة ما، أمراً محرجاً، إذ يتمسّك الرقيب بالعنوان أكثر من المضمون”.
وتضيف: “على رغم أن “ممر الألم” خرج من مؤسسة دينية تخضع لرقابة قوية من مشايخ معتمدين في الأزهر ودار الإفتاء المصرية، فإن بعض المسؤولين لم يشاهد الفيلم، وتعجّل في منعه، وكان المبرر غير المعلن هو الخوف على المجتمع”.
