الأب الدكتور سميح رعد
إنّ التوترات المتكرّرة بين الإيمان المسيحي والإبداع الفني ليست ظاهرة طارئة ولا عرضية، بل تكشف عن إشكالية لاهوتية عميقة تتصل مباشرة بفهم العلاقة بين الحقيقة والإيمان والحرية. فكيف يمكن، في سياق مجتمع تعددي، التوفيق بين احترام سرّ الإيمان المسيحي، بما يحمله من قداسة ورمزية، وبين حرية الضمير والتعبير والإبداع الفني بوصفها حقوقاً أساسية في الكرامة البشرية؟ إنّ القضية المعاصرة المتمثّلة في الملاحقة القضائية لفنان على خلفية عرض مسرحي اعتُبر ساخراً من المسيح تُجسّد هذه المعضلة بصورة جليّة، وتكشف هشاشة المقاربات التي تختزل المسألة إمّا في ردود فعل عاطفية أو في معالجة قانونية صِرفة. ومن هنا تنبثق الإشكالية المحورية: بأيّ معنى يستطيع اللاهوت، المستنير بتعليم الكنيسة، أن يمارس وظيفة نقدية وتمييزية تجاه الواقع الثقافي المعاصر، بحيث يحفظ قداسة الإيمان من جهة، ويصون حرّية الضمير والتعبير من جهة أخرى، دون الوقوع في منطق الإدانة الدفاعية أو في توظيف القانون والقوة خارج مجالهما المشروع؟
أولاً: حرية الضمير – الأساس اللاهوتي والأنثروبولوجي المسيحي
يشكّل المجمع الفاتيكاني الثاني منعطفاً حاسماً في الفهم الكاثوليكي لحرية الضمير، إذ يؤكد بيان الكرامة الإنسانية (Dignitatis humanae)، الوارد في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، بوضوح، أنّ الحرية الدينية “تستند إلى كرامة الشخص البشري ذاتها” (DH، 2). وهذه الكرامة لا تتوقف على سلامة أحكام الضمير موضوعياً، ولا على تطابقها مع الحقيقة الموحى بها.
وفقاً للتقليد الكاثوليكي، الذي أعاد المجمع الفاتيكاني الثاني تأكيده، يشكّل الضمير القلعة الداخلية التي يقف فيها الإنسان وحيداً أمام الله (فرح ورجاء، Gaudium et spes، 16). إنّ حرية الضمير، المتجذّرة في كرامة الشخص الإنساني، لا تُقاس بالالتزام المسبق بحقيقة معترف بها موضوعياً، بل بقدرة الإنسان على الاستجابة بحرية لتلك الحقيقة (DH، 2). وهذه الحرية تنطوي بالضرورة على مخاطر: احتمال الخطأ، والاستفزاز، وحتى التعبيرات التي قد تُدرك على أنها خطيئة أو تجديف. إن أي محاولة لتقييد التعبير الفني قانونياً باسم حماية المقدّس تهدّد هذه الكرامة الأساسية، إذ تخلط بين مجال الإيمان ومجالي الحرّيّة والإجبار، وقد تؤدي إلى إنكار الحقيقة الدينية التي “لا تُفرض إلا بقوّة الحق نفسه” (DH، 1). وهكذا، يصبح الدفاع عن الضمير واحترام حرية التعبير الفني من الضرورات اللاهوتية الأنثربولوجيّة التي لا يمكن فصلها.
ثانياً: حرية التعبير والتعددية الثقافية
تعترف الكنيسة، في الدستور الراعوي فرح ورجاء، الذي تعتبره الكنيسة الكاثوليكية بالاستقلالية المشروعة للواقع الثقافي والفني (GS، 59). فالفن ليس أداة للتعليم الديني المباشر، بل هو فضاء بحث وتساؤل، وأحيانًا احتجاج. ويؤكد المجمع أنّ للثقافة الإنسانية قوانينها الخاصة، ولا يجوز للكنيسة أن تتجاهلها أو أن تذيبها في ذاتها دون أن تُفرِّغها من معناها.
وتشير وثيقة وسائل الإعلام (Inter mirifica)، التي أصدرها البابا القديس بولس السادس خلال المجمع الفاتيكاني الثاني، في 4 ديسمبر/كانون الثاني 1963، إلى أن وسائل التعبير الحديثة، بما في ذلك المسرح، تندرج ضمن الحقّ الأساسي في الإعلام والتواصل، شريطة احترام كرامة الشخص الإنساني (IM، 5). وهذه الكرامة، التي تشكّل أساساً أخلاقياً ولاهوتياً، لا تتطابق مع حماية مشاعر جماعة دينية معينة من أي شكل من أشكال التعبير الرمزي النقدي أو الاستفزازي. في دولة قانون تعددية، لا يمكن اختزال حرية التعبير إلى مجرد تسامح سلبي، بل يجب أن تشمل بالضرورة إمكان النقد المستنير، والابتكار الرمزي، والخطاب المثير للتفكير، مع احترام المسؤولية الأخلاقية للفاعل دون ملاحقة قانونية. ومن منظور لاهوتي، تعترف الكنيسة بأن الحقيقة لا تُفرض إلّا بقوتها الجوهرية، بينما من منظور سلطوي، يجب ألا يُستغل القانون لخلط سلطة الإيمان مع سلطة القسر المدني. وهكذا، يظهر احترام حرية التعبير الفني كشرط أساسي لكلٍّ من الكرامة الإنسانية، والحياة الديموقراطية، والمصداقية الأخلاقية للدين في المجال العام.
ثالثاً: الفن في مواجهة السرّ المسيحي – بين الاستفزاز والبحث عن المعنى
تشكّل الرسالة الرسولية: إلى الفنانين، للبابا القديس يوحنا بولس الثاني (1999) مفتاحاً تأويلياً بالغ الأهمية لفهم العلاقة بين الإيمان والإبداع الفني. يؤكد البابا أنّ الفن يمتلك قدرة فريدة على استكشاف “الجوانب المظلمة للخبرة الإنسانية”، وكشف التوترات الداخلية والاجتماعية، وأحياناً تحدّي المؤسسة المسيحية، وغير المسيحية، دون أن يفقد شرعيته. الفن، كما تشير الرسالة، ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل لغة حقيقية للحق الإنساني، قادرة على إثارة التساؤل، وإثارة العاطفة، وتحفيز التفكير حول معنى الوجود، والعدالة، والحالة الإنسانية. تحتاج الكنيسة إلى هذا الإبداع، حتى عندما يسلّط الضوء على جوانب غير مريحة أو مثيرة للجدل في الإيمان، أو مستفزّة، ولو حتى جاحدة، لأن “كل فن أصيل هو طريق إلى عمق حقيقة الإنسان” كما تقول الرسالة. ومن هنا، يصبح الفن والإيمان مدعوّين للحوار لا للصراع، فيتحول كل توتر إلى فرصة للنموّ الروحي والثقافي.
ومن هذا المنطلق، لا يمكن تقييم عمل فني يقدّم صورة لا نقبلها عن المسيح أو أي موضوع نعتبره نحن مقدّساً، اعتماداً على الأثر العاطفيّ وحده. فالسؤال اللاهوتيّ الجوهريّ ليس: “هل هو مُهين؟” بل: “أيّ تصوّر عن الإنسان والإله يطرحه هذا العمل؟”. فقد يشكّل الاستفزاز أحياناً تعبيراً عن بحث وجودي، أو صرخة ألم، أو نقداً موجّهاً لا إلى شخص المسيح ذاته، بل إلى بعض الصور الجامدة أو المقنّعة للمسيحية، التي قد لا تعكس روح الإيمان الأصيلة. ويُلاحظ أن بعض الكتب والمقالات للكتّاب المسيحيين تتناول هذه المواضيع بأسلوب أحياناً أكثر صرامة ممّا يُعرض على خشبة المسرح اللبناني، ما يوضح أن النقد الثقافي والديني ليس مقتصراً على المجال الفني وحده. ومن الأمثلة على ذلك، دون حصر، عنوان كتاب “لا أؤمن بهذا الإله” للكاتب خوان أرياس، الذي ترجم الأب كميل حشيمة نصّه إلى العربية. هذا السياق يبيّن أن التعبير الفني، حتى حين يثير الجدل، يمكن النظر إليه كجزء من حوار ثقافي ولغوي أوسع يسعى إلى استكشاف العمق الإنساني للحقائق الدينية، بما يتوافق مع مبادئ حرية الضمير وكرامة الإنسان المعترف بها في التعليم الكاثوليكي.
رابعاً: المسؤولية الأخلاقية دون رقابة جزائية
إنّ الإقرار بحرية الإبداع الفني لا يعني نفي المسؤولية الأخلاقية. فالإرشاد الرسولي بهاء الحقيقة (Veritatis splendor) يذكّر بأنّ الضمير يحتاج إلى تنشئة وتنوير، لا إلى تركه فريسة للنزعة الذاتية المطلقة. والفنان، كسائر الفاعلين الأخلاقيين، يبقى مسؤولاً عن المعنى الذي يقترحه وعن الأثر الرمزي لعمله.
إنّ الإيمان الذي يلجأ إلى حماية قسرية من سلطة غير سلطة الحقيقة والمحبّة للدفاع عن ذاته، يتناقض مع منطق الإنجيل العميق، الذي يقوم على الحرية الداخلية للضمير وقوة الحق بذاته. غير أنّ التقليد الكاثوليكي يميّز بوضوح بين المسؤولية الأخلاقية والحكم الجزائي، فلا يجوز خلط المجال الأخلاقي مع سلطات العقاب. فاللجوء إلى السلطة القضائية لمعاقبة فنان بسبب عمل رمزي غالباً ما يعكس منطق السلطة أو الرقابة أكثر من كونه تعبيراً عن حرص حقيقي على الخير العام. ويشدّد المجمع الفاتيكاني الثاني على أنّ الحقيقة “لا تُفرض إلا بقوة الحق نفسها” (DH, 1)، ما يؤكّد أنّ الدفاع عن الإيمان لا ينبغي أن يتم عبر القسر، بل بالحوار والتربية والتفاعل الحرّ مع الثقافة والفن، بما يحترم كرامة الإنسان وحرية الضمير الموضوعين الأقدسين في المسيحية.
في ضوء تعليم الكنيسة، ولا سيما من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني والرسائل البابوية، يتّضح أن الدفاع عن حرية الضمير والتعبير والإبداع الفني لا يشكّل تنازلاً أمام النسبية، بل ينبع من جوهر الأنثروبولوجيا المسيحية. فالمسيح الذي قد يُسخر منه على خشبة المسرح لا يُمسّ مجده الإلهي، بل يمكن أن يتحوّل هذا الاستفزاز إلى فرصة للكنيسة لإعادة النظر في مخاوفها، وفهم توتراتها، وتعزيز ثقتها بالقوة الداخلية للإنجيل. بهذا المعنى، يصبح النقد الفني والجدل الثقافي جزءاً من الحوار البنّاء مع العالم، يتيح للكنيسة مواجهة التحديات المعاصرة دون التفريط في الحقيقة الدينية أو كرامة الإنسان.
إنّ الاستجابة المسيحية الأصيلة للفن، ولو كان استفزازيّاً، ليست في المقاضاة ولا في المنع، بل في التمييز والحوار والتربية، وفوق كل شيء في شهادة إيمان حرّ، لا يخشى حرية الآخرين لأنه واثق من حقيقة ما يؤمن به ومن قوّة الإنجيل.
